عودة الترامبية وبلاغة حذاء منتظر الزيدي

10 يناير 2025
+ الخط -

هل تحتاج السّياسة إلى الأكشنة، رغم كلّ ما يحدث في العالم اليوم؟... نعم على ما يبدو، وإلا لما تمخّض المسلسل الديمقراطي العريق عن كارثة اسمها دونالد ترامب. هذا ليس مؤشراً إلى رداءة السياسيين، التي يبدو أنها ليست خاصيةً عالمثالثية فقط، بل إلى أزمة شديدة في مراحل صناعتهم. فأيّ مشهد سياسي هذا الذي يعجز عن تقديم سياسيين "لائقين"، لا يقدّمون خطاباً سياسياً يُصنَّف في خانة +18، بحيث يُمنع على اليافعين الاطلاع عليه؟ ليس لأنه يخدش الحياء الأخلاقي المرتبط بالجسد وعوالمه الحميمية، بل لأنه يخدش حياء النفوس من الانحطاط الإنساني، والناس في هذا الزمان لا تعوزهم أسباب الكآبة.

لا تبدأ الحكاية من ضجيج ترامب حول كندا، ورغبته في ضمّها بلا خجل إلى إمبراطوريته الترامبية، لكنّ القادم أسوأ، لأنّنا سنرى نسخةً ثانيةً من الترامبية أسوأ من سابقتها، التي قدّمت لنا نموذج الطاغية الرأسمالي، بعد أن مللنا نماذج دكتاتورية الشموليات. خطورة ترامب تكاد تشمل حصرياً العالم، لهذا لم يكترث الأميركيون طالما يقدّم لهم حلولاً تفكّ أزماتهم في الظاهر، رغم أنّها تغرقهم أكثر في جشع الحلول الرأسمالية التي تأخذ أضعاف ما تعطيه. ولعلّ جزءاً من الأميركيين يعتبرون تصريحاته وأفعاله مصدر نكتة، ولعلّها تُرضي غرورهم وشعورهم بالتفوق، في امتداد غير جديد لعقلية الكاوبوي المفترية، التي صارت تسرح وتمرح في الشرق كما فعلت في الغرب الأميركي.

الأمر بسيط، لم يكن يحتاج سوى لمسدس وقبّعة وحصان، والآن تكفي تسريحة شعر رديئة، ورأسمالية فاسدة، وجُرأة في عيون وقحة. أعني، ما الذي يمنع الكابوي من اقتحام أراض أخرى؟ فالرّداءة السياسية لم تتوقّف عند حدود أميركا والعالم الثالث المنحوس في عمق الرداءة، إلى أن يرث كائن آخر الأرض، ويغيّر الله ما بها بلطف وكرم منه، بل حتى أوروبا وآسيا لم تنتج سياسيين حكماء، قادرين على مواجهة الصفاقة الترامبية.

وإذا اعتمدنا على الصين للتخفيف من غطرسة الترامبية، فنحن هالكون. فالدكتاتورية الصينية الشمولية أسوأ، لأنّها تطحن الصيني أولاً، ثمّ إذا مدّت قدميها في العالم كما في أفريقيا، فإنها تحوّل ما تلمسه نسخاً أخرى من مصانع تطحن البشر لصنع السلع الرخيصة السّامة، ليس بإعادة تدوير نفايات خطيرة فقط، لتصنع لنا أشياء من صميم حياتنا اليومية، بل لأنها تروّج لهذا النموذج السّام في الحياة، الذي يفوق توحّش الرأسمالية بمراحل.

آخر ما تفتّق من غطرسة الترامبية التّهديد بأنه إذا لم يُفرَج عن الأسرى الإسرائيليين ستُفتح أبواب الجحيم. لكن ما الذي يحدث هناك الآن إذا لم يكن جحيماً؟ وبعد عشرات الآلاف من الشهداء ما زال يذكر عشرات الأسرى الإسرائيليين؟ حتى إسرائيل نفسها نسيتهم وخاضت في الدم الفلسطيني حتى الركب، كأنّها لم تصدّق حدوث عملية طوفان الأقصى، ويبدو أنها كانت تنتظر حجّةً لتفعل، حتى أنه يمكن لشخص كثير الشكوك أن يجزم أنها كانت تعرف بخطّة "الطوفان"، لأنّها استفادت منها أشد ّإفادة لإعادة ترتيب خريطة المنطقة كلّياً، بتشتيت وتقتيل كاملٍ لأهل غزّة، وليس بالتقطير كما كانت تفعل سابقاً. فكيف تكترث بثمن قليل يتمثل في بضعة أسرى؟

سكوت العالم عما تفعله إسرائيل وأميركا، دليل آخر على الرداءة، وانعدام السياسي الأخلاقي، الذي يمارس السياسة سعياً إلى تحسين حياة مواطنيه، والإبقاء على قدر من الاحترام خارجياً، بدل سياسة +18 هذه، التي لا تليق بها سوى الشتائم، فلا النقد ولا التحليل ولا التنديد ولا الاستنكار كافية لمقابلة فحشها، فكلّها كلمات قاصرة وشديدة السذاجة وعديمة البلاغة.

وحين نرى معجم ترامب نعرف فقر وتفاهة لغة السياسة الجديدة، فالحديث لا يتجاوز مستوى طفل تربّى على أفلام "البوب كورن" الهوليوودية، لا الأفلام الرّفيعة التي تحفظ وجه أميركا من التمرّغ كلياً في الرداءة. ولعلّ منتظر الزيدي سيبقى أبلغ العرب حين رمى حذاءه على جورج بوش (الابن)، الذي افترى على العراق ودمّره، والحذاء أشدّ أمتعة الإنسان بلاغةً سلاحاً أو خطاباً. والآن ماذا يرمي أحد بُلغاء المنطقة العربية على صاحب التّرامبية إذا رآه؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج