صحراء
هي وحدها ما يكشط الروح من أدرانها، والحلّ الأوحد لمعضلة تجسيد الخواء. إنها الدرجة صفر من الوجود، ما قبل الخليقة، طاردة الحياة، بقدر ما هي محنتها وغربالها. من يحتاج محو العالم، وتصوّره خاليا من ضوضائه، لن يجد سواها. من لم يعجبه التكوين، لعبة الإله والشيطان، فكرة البشرية، ومن أراد تعرية الكرة الأرضية، مسْحَ نتوءاتها، نزع أبنيتها وطرقاتها وعنجهيّتها وادّعاءاتها، سيروح إليها مجبرا. هي الوحيدة غير القابلة للتطويع، وإن جرى تمويه بعض من أطرافها، لكنها تبقى المتوحّشة أبدا في تكرارها الخلاء، العارية حتى الإثم.
في قصة النبي موسى، حسبما وردت في القرآن، أنه ترك أرض مصر ونجا من فرعون وجنوده بأن شقّ البحر بعصاه، عابرا إلى صحراء سيناء، على أن يجتازها وقومه باتجاه الأرض المقدّسة. إلا أن قوم موسى جبنوا، ورفضوا الامتثال لأوامره، خوفا من الحرب والاقتتال مع الكنعانيين الذين عُرفوا بالجبروت والقوة، قائلين: "يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هنا قاعدون" (المائدة: 24)، فكان أن عاقبهم الربّ بالتيه أربعين عاما، توفّي مع دنوّ نهايتها موسى بعد عامٍ من وفاة أخيه هارون. وجاء في الإنجيل أن يسوع الناصريّ، بعد أن عاد من الأردن ممتلئا من الروح القدس، خرج إلى الصحراء، ليختلي قبل أن يبدأ حياته العلنية. وهناك، قضى أربعين يوما صائما مصلّيا، فظهر له الشيطان في نهايتها لكي يوقعه في التجربة، وكان يسوع قد جاع وأنهك، فقال له إبليس: "إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يتحوّل إلى خبز"، فردّ عليه يسوع: "قد كُتب، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (لوقا 4).
الصحراء، مملكة الشيطان؟ هي مكان القفر والعزلة والصمت. والموضع الذي يُظهر ضعف الإنسان، حين يكون من دون قناع، من غير سند، يشرب رملا ويأكل حجارة، يرافق ظلّا ويسامر نجما، يشتعل نهارا ويبترد ليلا. ساعة تخلٍّ. من الصمت الخارجي إلى العويل الداخلي. من الفراغ المحيط إلى الوعورة الداخلية. ساعة امتحان تُطرح خلالها الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود، حيث تترصّدنا غوايةُ بيع أرواحنا مقابل جرعة ماء.
في "صحراء التتار" الرواية الأشهر التي تتناول موضوعة الصحراء، والتي ترجمت إلى كل اللغات تقريبا، يروي لنا الأديب الإيطالي، دينو بوزاتّي، وصول شاب جندي إلى الحصن حيث تمّ نقله. الشاب يشعر بالحماس حيال مهمته الجديدة، لكنه لن يلبث أن يكتشف أن هذي الصحراء التي يقع الحصن على تخومها، والتي سيهجم عبرها التتار، ليست إلا سجنا كبيرا حيث لا يوجد شيء، سوى الروتين والانتظار وقتل الأحلام والطموح. هكذا يقرّر الفرار والعودة إلى حياته ومدينته، حيث سيكتشف أن الجميع اعتاد غيابه، بمن فيهم والدته! إثر صدمته تلك، يرجع الجندي إلى حصنه على أمل أن يهجم التتار يوما، فيمنحوه فرصة القتال لإظهار شجاعته، ولإثبات أن حياته وانتظاره لم يذهبا هدرًا... هنا الصحراء وعاءٌ مثقوبٌ يتسرّب منه الوقت هباء. إنها الفراغ فعلا، اللاشيء، اللامعنى وعبث الحياة التي تعِد ولا تفي، على عكس صورتها الشرقية الممتلئة تجارب ومحنا ومعاني.
طفلةً، حين كنت أنتعش بشرب مياهٍ عذبة، أو أستمتع بأكل بطّيخ أحمر ابترد طويلا في مياه ساقية أو نبع. كنتُ أتصوّر دائما أني وقعتُ عليه فجأة في صحراء ما، بعد مسيرة شقاء. أبني فيلمي وأعود وأبدأه من جديد مع كل رشفة، كل قضمة، ليزداد إحساسي بالتلذّذ والاستمتاع. ما الذي كان يأخذني إلى الصحراء يومها، وأنا لم أرَها البتة؟ لست أدري، أكان ذلك نذير أيام قادمة، نفتقد خلالها نسيمات الحياة؟