صدى الحرب في تونس: عسر الرغيف
لم يمرّ أسبوعان على الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، حتى بدت آثارها جليةً وواضحة على شوارع عاصمة تونس ومدنها. يشبّه بعضهم ما شهدته البلاد في أثناء إعلان الموجة الأولى من كورونا. وكان لافتاً اختفاء العديد من المواد الغذائية التي منها يعدّ الناس أكلاتهم: العجين الغذائي وكل مشتقات الحبوب والزيت النباتي المدعم والسكّر. كان هذا متوقعاً منذ مدة، وقد عرفت تونس بين حين وآخر شحّاً إلى حد ما، في ظل تداعيات كورونا والأزمة المالية الحادّة. منذ أشهر قليلة، وقبل اندلاع الحرب، شهدت البلاد جدلاً حادّاً على خلفية عجز ديوان الحبوب عن الدفع بالحاضر إلى عدة تجار دوليين جلبوا كمياتٍ من القمح. ظلّت البواخر راسيةً في عرض البحر، ما عطّل تزوّد السوق بهذه المادة. تطمئن وزارة التجارة المواطنين إلى أن مخزونها من الحبوب يكفي لتغطية حاجات البلاد إلى شهر يونيو/ حزيران المقبل. حينها، سيحل موسم حصاد القمح التونسي، وهو ما يمنح البلاد فرصة ثمينة تعفيها من مشقّة التوريد لبضعة أشهر أخرى.
لا تملك تونس مخازن كافية تخزن فيها محصولها عند فائض الإنتاج أو للشراء عند الحاجة
أعلنت مواقع ووكالات إخبارية، منها "رويترز"، أن تونس أخفقت، قبل أيام، في شراء كميات من القمح، لأن العروض كانت باهظة، خصوصاً أن ميزانية البلاد تعاني من أزمة حادّة. والأرجح أن هذه الحرب ستزيدها تعقيداً. تحتاج البلاد إلى نحو عشرين مليار دينار تونسي حتى تسد الثغرة الكبيرة التي سببتها الحرب. كانت ميزانية الدولة لسنة 2022 قد بُنيت على فرضية أن برميل النفط لن يتجاوز 70 دولاراً. لهفة ما ضربت جلّ الشرائح الاجتماعية إلى حد الفوضى، حتى اختفت المواد الغذائية في مدن وقرى عديدة. ساهمت الإشاعة والإعلام غير الدقيق في إنتاج هذا الإقبال المكثف وغير العقلاني لشراء المواد لتخزينها. وقد يكون شحّ بعضها ناتجاً من مضاربين ومحتكرين يرغبون في التربّح من هذه الحرب، ولو على حساب قوت التونسيين وحياتهم.
كان رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، منذ قام بانقلابه، قد دعا مباشرة رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، وأطلق في لقائهما تهديداته للتجار الفاسدين، واعتبر بعض ممارساتهم جريمة، وها هو يدخل وزارة الداخلية ذات ليلة خلال الأسبوع الماضي، ويعلن بدء الساعة الصفر من حربه على المضاربين والمحتكرين. وانتشرت بعد ساعات من إعلان الحرب هذه مئات الفرق الأمنية، تداهم محلات بعضٍ ممن تصفهم بالمجرمين الذين يتلاعبون بقوت الناس وبالسلم المدني. وثمة تجاوزات كثيرة حصلت، خصوصاً أن بعضهم يعدّها ممارسات شعبوية لن تحلّ المشكل، وهي تغطية لفشل الحكومة والرئيس نفسه عن حسن التصرّف في الأزمة. والحال أن الجميع يعلم أن مشكلة الحبوب ظلت تراوح مكانها منذ أشهر. ويتذكر التونسيون أن كميات هامة من الحبوب المحلية التي أُنتِجَت قد فسدت، وظلت أكثر من ثلاثة أشهر من دون تخزين، حتى تساقطت عليها أمطار الخريف. لا تملك البلاد مخازن كافية تخزن فيها محصولها عند فائض الإنتاج أو للشراء عند الحاجة.
السوق التونسية، مقارنة بأسواق أخرى، قد لا تكون أولوية لدى مصدّري الحبوب، هذا إذا توافر لديهم فائض ما
كانوا قديماً يطلقون على تونس اسم مطمور روما، وهي التي ترسل قمحها وشعيرها إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية، غير أنها، في الوقت الحالي، تستورد أكثر من ثلثي حاجاتها من القمح من أوكرانيا خصوصاً، والبلاد تحتل عالمياً مرتبة متقدّمة من استهلاك العجين الغذائي، بما يعادل 285 كلغ للفرد الواحد، متقدّمة على الجزائر والمغرب، يرافق هذا كله هدر غذائي مشين، خصوصاً في مادة الخبز التي يلقي التونسيون كميات منها في المكبّات. يقدم المعهد الوطني للاستهلاك تقديرات في حدود 113 ألف طن سنوياً (900 ألف رغيف يومياً)، في بلاد تمرّ بأزمة مالية حادّة، فإن هذا الهدر الغذائي بلغ السنة الماضية ما يناهز 43 مليون دولار.
يستخفّ الناس بهذا التبذير، ما دام الخبز مدعوماً، وتخشى الحكومات المتعاقبة رفع الدعم عنه، وهو الذي كان وراء انتفاضات مميتة حدثت أكثر من مرة. لذا، تحرص الحكومات على تجنّب أي إجراء تعديلي على مادة الخبز تحديداً. وتحرص البلاد، لتفادي أي خضّات اجتماعية قد تنجم عن النقص الحاد في المواد الغذائية، على تسريع التفاوض مع صندوق النقد الدولي، خشية أن يسوء الوضع. ومع ذلك، لا يعتقد خبراء عديدون أن المال، ولو وفره الصندوق، سيحل المشكل، فالعرض العالمي لمواد الحبوب سيكون شحيحاً، فضلاً عن أن السوق التونسية، مقارنة بأسواق أخرى، قد لا تكون أولوية لدى مصدّري الحبوب، هذا إذا توافر لديهم فائض ما.