صراع السرديات في ''فتح الأندلس''
على الرغم من ضعفه الفني الواضح، كتابة وسيناريو وإخراجاً، لا يزال مسلسل ''فتح الأندلس'' (إخراج الكويتي محمد سامي العنزي) يثير جدلاً واسعاً بسبب المغالطات التاريخية التي يراها منتقدوه تسيء إلى بلدان المغرب العربي، وتحديداً المغرب والجزائر. وكان جديد فصول هذا الجدل، رفض المحكمة الابتدائية في الرباط النظر في دعوى رفعها أحد الناشطين على الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية من أجل وقف عرض المسلسل. وقبل ذلك، كان نائب في البرلمان قد وجّه سؤالاً إلى وزير الثقافة والشباب والتواصل، يطالب فيه بالكشف عن ''الإجراءات التي ستتخذها الوزارة بغاية صون تاريخ المغرب وتخليده، بعيداً عن المغالطات (...)''، في خطوة تبدو مفاجئة، هذا في وقت هناك كثير مما يمكن أن يقوم به هذا النائب أو غيره، في ظل ما يعانيه طيف واسع من المغاربة من تردّي الوضع المعيشي نتيجة مخلفات الجائحة وارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية.
يرى منتقدو المسلسل أنه يتضمّن مغالطات عن تاريخ المغرب وحضارته ومكوّناته الأهلية والثقافية الأصلية. وأنّه يُشرعن الاحتلال الإسباني لمدينة سبتة، بتقديم حاكمها، إبّان الفتح (الغزو؟) الإسلامي باعتباره قوطياً (إسبانيّاً)، إضافة إلى الشكل الباهت الذي قُدّمت به شخصية طارق بن زياد وتزييف الحقائق بشأن أصوله التي يقول جزائريون إنّها جزائرية بحتة. وعلى ما يمكن أن تثيره هذه القضايا من نقاش، يظل القول الفصل فيه لأهل الاختصاص، فإنّ ما قدّمه المسلسل لا يبدو أنه يتجاوز حرية الرأي والإبداع، فالتوظيف الدرامي والتخييلي للتاريخ ليس محفوظاً باسم أحد ما دام الأمر لا يتعلق بتوثيق أحداثه، والسردياتُ تتجاذب وتتصارع، وقد تتوافق في لحظةٍ على سرديةٍ جامعةٍ تستوعبها من دون عسر. ويجدر التذكير بأنّ التلفزة المغربية سبق أن عرضت أعمالاً درامية، تناولت فتح الأندلس من دون يثير ذلك أي اعتراض حينها، ومنها، على سبيل المثال، مسلسل ''موسى بن نصير'' (1983، إخراج جلال غنيم).
يمكن تفسير الجدل الذي يواكب عرض ''فتح الأندلس'' بحالة الانسداد الفكري والسياسي التي وصل إليها التياران القومي والإسلامي في المنطقة، بالتوازي مع صعود خطابٍ هوياتي أمازيغي يدافع عن هوية مغربية متعدّدة الروافد والمكونات، ويرى أنّ طرح قضايا التاريخ والذاكرة والهوية في المغرب ينبغي أن يتحرّر من وصاية هذين التيارين، ذلك أنّ ''التاريخ الرسمي'' (العربي الإسلامي) لمنطقة شمال أفريقيا ينطوي على مصادرةٍ ليس فقط للشعوب الأصلية وموروثها الثقافي، بل أيضاً يُكرّس ما تعيشه الثقافة الأمازيغية من إقصاء على مختلف الواجهات، فيما يحيل إلى إعادةِ اعتبارٍ للفترة التي سبقت وصول الإسلام إلى المغرب. وبالطبع، يتغذّى هذا الخطاب، مثل غيره من الخطابات الهوياتية، على ما تراكم على الصعيد الدولي من أدبياتٍ بشأن الأقليات والشعوب الأصلية والتنوع الثقافي. وأبرز ما يؤاخَذ على مسلسل ''فتح الأندلس'' افتقاده خلفية ثقافية تتوسَّلُ بما استجدّ في هذه القضايا من تراكماتٍ نظرية، ولا سيما في حقل الأنثروبولوجيا بمختلف فروعها. وقد بدا ذلك واضحاً في جهله بجوانب كثيرة من التاريخ الاجتماعي في شمال أفريقيا قبل الإسلام، هذا فضلاً عن ''سقطته'' الفنية بالاقتصار على ممثل مغربي واحد (هشام بهلول)، فيما يمكن اعتبارُه جهلاً بما وصلت إليه الدراما المعاصرة، وربما أيضاً تعالياً مشرقياً، في وقتٍ يتناول المسلسل مقطعاً تاريخياً فاصلاً في تاريخ المغرب العربي.
بيد أنّ ذلك كله لا يعفي الجانب المغربي من المسؤولية، فما الذي يمنع الشركة العامة للإذاعة والتلفزة من أن تستثمر جزءاً مما يُضخُّ في ميزانيتها من أموال دافعي الضرائب في إنتاج عمل درامي يؤسّس لسردية مغربية مغايرة حول فتح الأندلس، عوض ما تنتجه من برامج تافهة وأعمال فنية ضحلة كالتي تعرض حالياً في رمضان؟