طلّاب الجامعات: إعلام جديد؟
قدّم الإعلام (أو معظمه) النزاع بين الطلاب المُعتصمين في أحرام الجامعات الأميركية، وإدارات هذه الجامعات، التي استدعت الشرطة لقمعهم والطاقم التعليمي المُتضامِن معهم، أنّه إحدى ساحات الصراع في مناطق الحروب بين طرفيْن، يستخدم كلاهما العنف لخدمة أهدافه. بدأ تبسيط الرواية بتقديم الحراك الطلابي حالةَ تمرّدٍ طلابٍ خرجوا عن السلوك المُتوقّع منهم ليتحولوا محتلّين لأحرام جامعاتهم، يعيقون مسار نشاطاتها خدمةً لأغراض خارجية. تحوّلت الرواية، مع تدخّل الشرطة العنيف في معظم هذه الجامعات، تماشياً مع الدعاية الإسرائيلية واليمين المُتطرّف، إلى عملية تأديبٍ لمجموعات طلابية تبنّت فكراً راديكالياً، وبذلك، أصبحت تشكّل خطراً على الجامعات وعلى المجتمع، خارج أحرام الجامعات.
انتشرت رواية الطلاب "الحثالة" عبر وسائل التواصل، وبعض الإعلام التقليدي، وعلى لسان المُعلّقين، لتصوّر الطلاب أنّهم مجموعة من الأولاد المُدلّلين نجحت حركة حماس في اجتذابهم وتجنيدهم لخدمة أجندتها، يحملون فكرَ الإسلاميين وتطرّفهم، وهم بالضرورة معادون للسامية، رغم مشاركة أعداد كبيرة من الطلاب اليهود في الحراك. قال أحد المسؤولين الإسرائيليين إنّه كان يعتقد أنّ "حماس" تسلّلت إلى جامعات غزّة، ليجد أنّها تسلّلت إلى الجامعات الأميركية أيضاً. علّق أحد ضيوف شبكة "سي أن أن" إنّه يصعب عليه أن يتصوّر ما سيكون وضع طالبة يهودية تعبر الحرم الجامعي ليلاً مع وجود مُخيّم الاعتصام، مكرّراً بذلك القوالب الجاهزة عن الرجال العنيفين مغتصبيّ النساء. هذه الشيطنة للطلاب، عبر تعبيرات مُتباينة لم تواجه بحجج مضادّة في الغالب، في منصّات الإعلام، بل وُضعت ببساطة في خانة "التحليل" أو "المواقف". في حالات أخرى، تولّت الصحافة نفسها عملية التشهير مباشرةً، من دون حاجة إلى مُعلّقين؛ نشرت إحدى كبريات الصحف الألمانية (بيلد) لائحةً بأسماء الأساتذة المُؤيّدين للحراك الطلابي في الجامعات الألمانية، ناعتةً إياهم بـ"المرتكبين"، بعد أن وقّع هؤلاء رسالةً انتقدوا فيها عنف الشرطة ضدّ الطلاب المُعتصمين. لعلّ أبرزَ الصور المُعبّرة عن هذه الشيطنة مقطع مصوّر تناقله الإعلام الحديث لشرطيّ وهو ينزع الكمّامة عن وجه طالبة، كما الغطاء عن رأسها، حتّى يراها العالم كما هي؛ أقلّه مشاغبة وأكثره راديكالية أو حتّى إرهابية.
شيطنة الطلاب مسألة خطيرة، ليس بالنسبة لكيفية تعاطي الإعلام مع القضايا التي يدافع الطلاب عنها، وهستيريا التهويل حولها، فقط، إنّما أيضاً، مستقبل الطلاب أنفسهم أفراداً. هم مجموعة هشّة، ولو أنّهم ليسوا من أبناء الطبقات الكادحة، وليسوا بالضرورة مُعرّضين للتهميش. تصويرهم أنّهم ضحية غسل دماغ من جانب الإسلاميين، وأنّ حراكهم شكل من أشكال معاداة السامية، انعكس على مستقبلهم العلمي (أعداد كبيرة منهم طُردت أو علّقت دراستها) كما على مستقبلهم المدني (المئات أوقفوا وبعضهم طلب منه إخلاء البيوت أو الغرف التي استأجروها للدراسة). من غير المبالغة القول إنّ الحملة ضدّهم ستؤثّر على فرص العمل المستقبلية، وفرص اندماجهم في مجتمعاتهم الأوسع، في ظلّ الانقسامات الحادّة بشأن القضايا التي يرفعونها، ولو أنّ كلّ هذه الاعتبارات لم توقف حيوية الحراك، الذي بات تياراً عالمياً يجتذب مئات الطلاب في جامعات العالم، من الولايات المتّحدة إلى أوروبا (بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا وسويسرا، وغيرها) إلى أميركا اللاتينية، وحتّى سيئول.
كان علينا أن ننتظر شجاعة الطلاب الشباب حتّى نسمع في الإعلام نقاشات غابت، عن آلة القتل
التصوير السالب للطلاب في قسم كبير من التقارير الإعلامية (مع استثناءات مُهمّة جدّاً) يعكس، أيضاً، المبارزة بين هؤلاء الطلاب والإعلام التقليدي بشأن معنى ما يجري في غزّة؛ حرب الإبادة التي لا يزال الإعلام يُقدّمها نزاعاً بين طرفين يدفع ثمنه المدنيون. لا تزال أسئلة من نوع "هل تعارض حقّ إسرائيل في الوجود" أو "هل تدين حماس" تتردّد في الحوارات الإعلامية عن حرب الإبادة، رغم التقارير المتواترة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، وعن رعبٍٍ يفوق الخيال في غزّة أو ما تبقّى منها. الأكثر أهمّية من ذلك كلّه أنّ الطلاب قاموا بما لم يقم به الإعلام التقليدي، المعني بالدرجة الأولى في تحرّي القضايا التي يطرح الطلاب أسئلةً حولها: لمَ تستثمر جامعات عريقة في السلاح الذي يقتل المدنيين في غزّة أو غيرها؟ ما مسؤولية الجامعات في التأكّد من أنّ استثماراتها أخلاقية، ولا تتعارض مع التزامها خدمة مجتمعاتها؟ ما معنى الحرّية الأكاديمية في إمكاناتها وحدودها في المجتمعات، التي تعيش تجاذباً حادّاً في قضايا مصيرية؟ لمَ أصبحت الجهات نفسها التي كانت تدافع عن الحرّية الأكاديمية، متهمة ما يسمى ثقافة إلغاء الآخر بتقييد هذه الحرية، تدعو للحدّ من هذه الحرّية التي أضحت في عرفها فوضى، باسم منع التعبيرات التي ينظر إليها معادية للسامية؟ كيف التمييز بين معاداة السامية والنقد المشروع للسياسات الإسرائيلية؟ كيف يمكن إعادة تعريف حقّ الدفاع عن النفس، الذي لا يسمح بارتكاب جرائم حرب تحصد الآلاف من أرواح المدنيين؟ كيف يمكن أن نعيش يوميات الإبادة وكأنّها حدث عادي؟ وغيرها من الأسئلة العاجلة.
كان علينا أن ننتظر انطلاق هذا الحراك الطلابي المُبهر حتّى نسمع في الإعلام كلاماً مباشراً، غير ممجوج أو مخفّف عما يجري في غزّة؛ إنّها كارثة إنسانية بحجم إبادة لا مُجرّد أزمة إنسانية. كان علينا أن ننتظر شجاعة الطلاب الشباب حتّى نسمع في الإعلام نقاشات غابت، منذ بدء حرب الإبادة، عن آلة القتل، ومَنْ وراءها، وتاريخ النزاع قبل السابع أكتوبر (2023). هؤلاء الطلاب باتوا صوتنا عندما صمت الإعلام.