طوفان الأقصى والمفاهيم الجديدة... قاموس موضوعي
بات الأمر حيويا أن نصحّح المفاهيم مع ما نراه، أمام أعيننا، باديا من انتشار مفاهيم تُفهم بطريقة غير صحيحة حيث استرعى انتباهنا، مؤخّرا، انتشار عديد التّحاليل الغربية التّي تصوّر معركتنا الوجودية في المنطقة على أنها معركة معقّدة بتواريخ متضاربة وبإرادات متناقضة لكنّها مرتكزة على حقائق في إطار ثنائياتٍ كثيرة، لعلّ أبرزها: وجود/ غياب، قوّة/ ضعف، إرادة فعل وحضور/ إرادة تغييب وجمود، انتصار/ انهزام... يستطلع المقال، من خلال عشرة مصطلحات، إدراك الآخرين للشرق الأوسط وإدراكنا له مع الكشف عن المسلك الذي يبرز أحقّية إدراكنا بالقبول/ الإقناع/ الانتصار، في الأخير.
يمكن القول، بداية، إنّ تلك المصطلحات هي محور تصارع تلك الإرادات وتباري تلك الثُّنائيات، ولا يمكن فهم ما يجري، حقّا، في المنطقة، إلاّ بالتّطرُّق إلى معاني تلك المصطلحات في إدراكات صانعي الوضع الحالي وضحاياه مع استطلاع مآلات الأوضاع للعقود المقبلة، في ظل استمرار تلك الثنائيات في صنع الصورة القاتمة للمنطقة ولساكنيها من العرب، بصفة خاصة.
الإرهاب: مصطلح لا يكاد يمرّ يوم من دون أن نسمع، نقرأ ونشاهد، عشرات التقارير والمقالات تتحدّث عنه وتوصم حركيات، ممارسات وأقوالا، بأنها تنتمي إلى فئة الأفعال التي يغطّيها، والتي تغذّيها، بصفة أساسية، صورة نمطية توجّه أصابع الاتّهام إلى جهةٍ دون غيرها تتمثّل في جغرافية أطلق عليها "قوس الأزمات"، يمتّد من باكستان شرقا إلى المغرب غربا، ويشمل، وهذا هو الجديد في الأمر، كلّ من يعتقد به من ساكنيه أو المتحولين إليه. انّه الإسلام.
وتتفرّع عن الصورة النّمطية هذه مجالاتٌ شهدت غزارة في الإنتاج "العلمي" على غرار: العقل الإسلامي، الخطاب الديني، الاتّجاه العنفي في العقل المسلم، غياب الحريات وآثاره على انتشار العنف في العالم الإسلامي... وهي مجالاتٌ تعمل على ترسيخ تلك الصورة النّمطية أكثر مما تدرسها. وقد انغمس في تغزير ذلك الإنتاج جيل من الباحثين، شمل الغربيين كما شمل أبناء هذه المنطقة ممن يعملون في إطار عملية "تجديد الخطاب الديني" و"تأويل جديد للنص الديني"، إلخ.
مصطلح الإرهاب أصبح لصيقا بالمنطقة واعتلى صدارة التهديدات، ما شكّل سببا "وجيها" لتغيير أولويات الأمن برمّته
ما يهمّنا، هنا، أن مصطلح الإرهاب أصبح لصيقا بالمنطقة واعتلى صدارة التهديدات، ما شكّل سببا "وجيها" لتغيير أولويات الأمن برمّته، ليتصدّر هذا التهديد حتى التهديد الوجودي الأوّل "العدو اليهودي" وكيانه الغاصب لفلسطين.
المقاومة: من أولى ضحايا الانقلاب في المفاهيم، مع انتشار تلك الصورة النمطية حول "صناعة الإرهاب"، انهيار الجدار الفاصل، في إطار الدفاع الشرعي، بين ما هو "إرهاب" وما هو "مقاومة" داخل منظومة الحقوق الشرعية لاسترجاع الأرض/ الحقوق المسلوبة، وفي مقدّمتها فلسطين ومحاربة الاستبداد. وكان من أثر هذا الانقلاب، تحوّل العمل الدفاعي الشرعي إلى خيانة، إرهاب، وقوف ضد ثوابت الأمة، الاصطفاف مع العدو (تغيّر ليصبح وفق تحوّلات هذه المصطلحات ومعانيها). نكبة فلسطين الثانية بدأت، وبدأ معها السعي إلى تحقيق مبدأ "الدولة الواحدة".
حلّ الدولتين/ حل الدولة اليهودية و"الترانسفير": تقتضي تراتبية الأمور المذكورة أعلاه تراجع صورة الحل وخريطته، وهو الذي الذّي جرى، على أساسه، بناء منظومة كاملة من المفاوضات منذ بدء ما يعرف بمسألة فلسطين في أعقاب النكبة، في سنة 1948. يمكن ملاحظة ذلك الترابط الشديد بين العمل الفكري في كسر حواجز المفاهيم الأساسية الإرهاب/ المقاومة، للمرور إلى تجسيد التحوّلات في إطار تعديل سلّم التهديدات، لتصبح على أساس تراتبية جديدة: التهديد الإرهابي ثم (مع التراخي الشديد) التفكير في مسألة حلّ "المعضلة الفلسطينية" بتوجيه استراتيجي مبتكر، يرتكز على حلّ الدولة الواحدة (بقومية ودين "يهوديين" خالصين)، والتفكير الجدّي في إيجاد أرض جديدة للفلسطينيين، ربما تكون سيناء "الأرض الموعودة" لهم بمباركة "الثورة العميقة" بعمق التحوّلات الاستراتيجية التي نشهدها، والتي على أساسها تتغير الخرائط وتتبيّن حقيقة المقولة التي انتشرت في أعقاب ما سمّي "الحراك العربي"، وهي مقولة "سايكس بيكو جديد" لـ"تفتيت المفتت وتجزيء المجزّأ" على خريطةٍ هي بمثابة برميل كان نفطا وأصبح متفجّرات، وبحجم قارّة تشمل ليبيا، اليمن وسورية والعراق، وربما "مترشّحين جددا"، وفق ترتيبات المنظومة الجديدة للعقيدة الاستراتيجية برعاية شرق أوسطية.
إذا توقّف الاحتجاج، أمنت السلطات توقّف التفكير في التحوّل نحو مرتبة أخرى للحصول على الحقوق
"سايكس بيكو جديد": يعتمد التفكير الاستراتيجي الجديد على استعادة التاريخ، ليس لمحو آثاره المدمّرة على المنطقة، والتي كانت السبب في انتشار عقيدة "المقاومة" لاسترجاع الأرض/ الحقوق المسلوبة (فلسطين والأوطان من الاستبداد)، ولكن بهدف ترسيخ أن المخطّط مستمرّ، وعلى الضحية انتظار لحظة "رصاصة الرحمة"، وليس "لحظة الفرج" التي شملتها منظومة "حقوق إنسان"، تبيّن أنه الإنسان اليهودي/ الأبيض/ المرضي عنه دوليا أو، على أقل تقدير، "الإنسان الجديد بعقلٍ مشكّل"، مضمونُه خطاب جديد متجدّد تتغيّر فيه مدلولات المفاهيم. إنه عصر الاستسلام بعقيدة "الشرق الأوسط الجديد"، حقيقة هذه المرّة بالإنسان، بالتاريخ، بتغيير الجغرافيا، وبتشكيل عقول جديدة تستوعب المطلوب منها، وأول ما تستوعبه حدود ما يمكن أن تطالب به لاسترجاع ثنائية الأرض/ الحقوق المسلوبة منه.
الاحتجاج: وهي أولى مراتب المطالبة بتلك الثنائية، والتي صنع لها، الآن، مجال رحب افتراضي، وهو مجال "وسائل الاتصال الاجتماعية"، والتي يمكن الاحتجاج فيها وفق ضوابط تحكمها "التريندات" و"اللايكات" وعدد "إعادة التغريد"... إنها سوق عكاظ الجديد لشعبٍ عربي معروف عنه شغفه بالحديث، الحديث ثم الحديث... تغيّر معنى الاحتجاج الذي تحكُمه ضوابط قانونية، للتعبير عن عدم الرضا عن السياسات/ القرارات/ الإجراءات التي تتّخذها الدولة في تسييرها الشأن العام، ليصبح، وفق الموانع الكثيرة القانونية التي انتشرت في منظومات القمع العربية، مرتّبة افتراضية تعلوها قيم الولاء للوطن، الرضا بالمنظومات الاقتصادية الظالمة، وبالفساد المستشري بدلا من تحوّل البلد إلى "سورية" أو "عراق" آخر.
وإذا توقّف الاحتجاج، أمنت السلطات توقّف التفكير في التحوّل نحو مرتبة أخرى للحصول على الحقوق. إنها دروس الحراك العربي لسنة 2011، حيث لم تنتبه تلك السلطات إلى حجم "المخاطر" و"التهديدات" التي يشكّلها كم الاحتجاجات على سياساتها لتتحوّل، في لحظةٍ، إلى موجة عارمة سمّيت بـ "الثورات العربية".
الثورة: تلك اللحظة التي يخيّل للشعب أنه امتلك خيط التغيير إلى رفع سقف المطالبات إلى حدود: تجديد النخب، تغيير النظام، انتخابات نظيفة وشفافة ونزيهة. المطالبة بحكم جديد من اختياره، ويعمل لصالحه وفق المنظومة القرارية المعروفة في الأنظمة الديمقراطية: مطالبات/ دراسات/ تشريعات/ قرارات/ رضا أو عدو رضا... دورة قرارات أخرى، وهكذا.
عرف العرب حجم المعاناة التي يمكن الوصول إليها من جراء "التجرؤ" على أنظمتهم السياسية فظهرت إلى الأفق مصطلحات بديلة
لكن، هل الثورة هي التغيير الجذري أم حملة من الروتوشات على أنظمة أكل عنها الدهر وشرب؟ لم يتمكن العرب إلى الآن من الوقوف على تعريف للمصطلح لكنهم، حقيقة، عرفوا حجم المعاناة التي يمكن الوصول إليها من جراء "التجرؤ" على أنظمتهم السياسية فظهرت إلى الأفق مصطلحات بديلة: الثورة المضادة، الدولة العميقة، التغيير في دائرة النظام وليس خارجه، تجديد النخب بالنخب القائمة، عودة الحرس القديم، العدالة الانتقالية الحامية للحرس القديم، قوانين العزل السياسي ومعانيها الحقيقية، الفساد وحجم تحكمه في دواليب الدولة ... إلخ. وبهذه المعاني، أدّت الثورة إلى تمنّي الناس عودة الأمور إلى ما كانت عليه، لأنها سرعان ما تحوّلت إلى فوضى عارمة.
الفوضى: تحدّث صموئيل هنتنغتون عن موجات الديمقراطية الأربع، لكنه لم يتصوّر، يوما، العالم العربي وحجم التعقيد الذي تتصادم فيه وتتداخل إشكاليات التغيير مع منظومتي الاستراتيجية العالمية (بوجود الدولة اليهودية في المنطقة مضافا إليه معطى النفط) ومنطق وجود الأنظمة بمعادلة الديمقراطية مع مخاطر الفوضى/ الاستبداد المتنوّر مع ضمان الاستقرار، وهي المعادلة التي تحوّل الثورات إلى موجةٍ من الفوضى العارمة حتى تستقيم الأمور، ويضمن "بقاء دار لقمان على حالها"، بحقائقها وبمنظوماتها التي أصبحت، الآن/ مسلّمات، وليس مجرّد لحظات فارقة لأحداث صناعة التاريخ.
كيف يمكن لأي باحثٍ أن يدرس حالات "الثورات العربية" التي انقلبت إلى "حروب أهلية"، "انقلابات"، "وضعيات شائكة"، "ثورات مضادة"، "أرضيات للعبة دولية/ إقليمية بامتياز"، إلخ...؟ إنها أرضية المفاهيم التي لا يمكن ضبطها، بل ابتكار قواميس لتشملها بانقلاباتها، وفق تلك الإرادات المتصارعة، والتي يغيب عنها اللاعب الوحيد المعني والمهتم "الشعوب".
تجديد النّخب: ما يحدُث في العالم العربي، منذ موجة الاستقلال وصولا إلى "انتفاضات 2011"، محوره المطالبة المجتمعية بمبدأ "تجديد النخب" الطبيعي لحياة كل المجتمعات، والذي أساسه الأوّل والمتين "التداول على السلطة"، وفق إجراءات تحكمها نصوص مؤسّسية تشكل الخط الأحمر لكل فئات المجتمع، وتدار، على أساسها، مفاوضات المجتمع وصراعاته، في إطار متحضر، منتظم وباستمرار.
خريطة الديمقراطية بل والأنظمة المتحولة/ المتنقلة إلى الديمقراطية ما فتئت تتوسّع، إلا في منطقة واحدة، هي منطقة "الشرق الأوسط"
شكّل هذا المبدأ، وما يزال، محور المطالبات المجتمعية، ومن دون تحقيقه، على أرض الواقع، إطار تجسيد تلك المعادلة الصعبة التي تتداخل فيها معطيات المحلي/ الإقليمي/ الدولي، من ناحية، ومعطيات المعادلة: الديمقراطية مع مخاطر الفوضى/ الاستبداد المتنوّر مع ضمان الاستقرار، من ناحية أخرى. وهذا المبدأ معطى آخر لم يفكّر فيه الباحثون في شؤون العالم العربي - الإسلامي. وعندما صعب عليهم الأمر، وجدوا حلا أصبح، مع مرور الوقت، موضوعا دراسيا خاصا بهذا الفضاء الجغرافي/ الحضاري، وهو "الاستثناء العربي - الإسلامي عن التغيير" أو "الامتناع عن التغيير".
الامتناع عن التغيير: لا يمكن الحديث عن الوضع العربي من دون الإشارة إلى هذا الاستثناء في تجسيد التغيير وتحقيق بناء الدولة والوصول إلى النمو/ التطوّر الاقتصادي، بل تشهد مؤشّرات كثيرة تأخرا عربيا - إسلاميا صارخا، جسّدتها تقارير دولية، أشارت، بما لا مجال للشكّ فيه، إلى أن ثمّة تأخرا، بل غيابا عربيا - إسلاميا عن خريطة التقدّم والفعل الحضاريين. وقد حاولت دراسات كثيرة تحليل هذا التأخر لتسجل معطى الاستثناء العربي – الإسلامي، ثم تشخص أسباب هذا "الامتناع عن التغيير"، وهو الامتناع الذي أرجعوه إلى رفض الآخر المتجذّر في الفكر العربي – الإسلامي، ورفض منطق التغيير لتجسيد التطوّر، بفعل تجذّر ثنائية الحلال/ الحرام والنظرة الضيقة لمجالات العلم والمعرفة الرحبة.
وعلى الصعيد السياسي، فان خريطة الموجة الثالثة للديمقراطية تكفي لتجسيد ذلك الامتناع عن التغيير، إذ إن خريطة الديمقراطية بل والأنظمة المتحولة/ المتنقلة إلى الديمقراطية ما فتئت تتوسّع، إلا في منطقة واحدة، هي منطقة "الشرق الأوسط" بالمعنى الأميركي الجيو سياسي (من باكستان إلى المغرب) أو الأوروبي الجغرافي (فضاء المتوسّط الشرقي والغربي).
كما أضاف الباحثون في شؤون المنطقة سببا آخر للامتناع عن التغيير، وهو المرجعية الفكرية الحضارية العربية - الإسلامية المرتكزة على رفض فكرة الحرية والعدل ومنظومة الثورة على الأوضاع القائمة، إضافة إلى رفض مبدأ دوران النخب وبعده السياسي التداول على السلطة في إطار إجرائية ديمقراطية واضحة، وهي: الانتخابات والاختيار الحرّ للحاكم ولممثلي الشعب.
تأخّر العرب عن الحضارة، بل غابوا عن المشاركة في صنعها والإسهام في سيل المعرفة وتدفقها، وهو ما يزيد من حجم المعاناة
أدى ذلك كله، في الإطار الفكري والحركي، إلى غياب العرب والمسلمين عن الحضارة المعاصرة برمتها، وهو ما تجسده مؤشرات الاكتشافات العلمية، جوائز نوبل وبراءات الاختراع. إنّه التأخر عن الحضارة، بل الغياب عن المشاركة في صنعها والإسهام في سيل المعرفة وتدفقها، وهو ما يزيد من حجم المعاناة، ويعمّق حجم "الامتناع"، ويصنع "الاستثناء"، بالتالي..."القابلية للاستضعاف"، أو ما أطلق عليه أحدهم "القابلية للاستدعاش".
الحضور/ الفعل/ العروج الحضاري: ما هو السبيل إلى تغيير هذا الواقع، القاتم بحقائقه والصادم بتداعياته؟ ذلك ما فكّر فيه العرب والمسلمون واهتدوا، من خلاله، إلى ضرورة مراجعة النفس والانكفاء على الذات لتجسيد "صدمة" الحقيقة ومصارحة النفس بها ثم المسارعة إلى صنع البديل لتحقيق الحضور/ الفعل/ العروج الحضاري.
تحدّث عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد" عن وجوب الامتناع عن صنع التغيير بدون تحضير البديل، أي الثورة ثم التفكير في البديل، بل هي تراتبية طبيعية: تشخيص الداء/ وصف العلاج/ تحضير البديل/ المرور إلى الفعل التّغييري. قد يمتدّ التفكير في البديل وقتا طويلا، ذلك أن التغيير مسألة نفسية، قبل أن تتحوّل إلى فعل حضاري، ومرّد ذلك أنّ مرض القابلية للاستضعاف في العالم العربي - الإسلامي امتدّ قرونا، بفعل توارد نوعيات من الظلم، استعمار ثم استبداد، وهو ما يقتضي صنع الإنسان الجديد الذي يقبل بالثّورة عن تلك المنظومة بتغيير مضمونه تجديد نخب/ إيجاد بديل/ اتباع سنن الكون في صنع "الحضور/ الفعل/ العروج الحضاري".
ترتسم معالم الوعي بفهم حجم التحوّلات التي طرأت على العالم كما ترتسم معالمه بالتركيز على أولويات بعينها، ولعل أولها صنع الوعي، ثم الانتقال من إيجاد الإنسان الحامل هذا الوعي إلى تجسيد العودة إلى الحضور/ الفعل/ العروج الحضاري. السبيل إلى تحقيق ذلك طويل وشاقّ ودونه مصاعب ومفاوز. ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة وما ضاع حقّ من ورائه مطالب. إنها معركة وعي، مصير ووجود.