عادات وتقاليد
بالطبع، أُصبنا كلنا بالملل من النكتة السمجة التي يجرى تداولها، كلَّ عام، بحلول شهر رمضان، ويبدو أنني سأكون سمجة أيضًا، حين أسردها هنا للتذكير، فكلُّ من نشرها، عبر حسابه على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي، ادَّعى أنها قد حدثت مع أمه، أو إحدى قريباته، ولكنها نكتة سمجة تدلّ على التكتيك والتخطيط النسوي، فعلًا. النكتة عن سيِّدة غطَّت في نومها، حتى اقترب موعد أذان المغرب، وحين استيقظت لم يكن أمامها الوقت؛ لكي تعد طعامًا للإفطار؛ فأعدّت على وجه السرعة شوربة العدس، خلال عشر دقائق، على الأكثر، وأرسلت أطفالها إلى جاراتها، وكلُّ واحد منهم يحمل طبقًا، وعادوا إليها بأطباقها، بعد أن أُفرِغت من شوربة العدس المتواضعة، وقد مُلِئت بأصناف شهيَّة من الطعام المطهو باللحم، وبعض أصناف الحلوى.
في طفولتنا، عشنا وتربَّيْنا على عاداتٍ وتقاليد، ومنها التي وردت في النكتة السمجة، وقد كنَّا فعلًا نستبقي الطبق الفارغ الذي وصل إلينا ممتلئًا من أحد بيوت الجيران، ويظل الطبق ينتظر أن تعدَّ الأم صنفًا شهيًّا، أو نوعًا من الحلوى؛ فتملأه مرَّة أخرى، وتعيده إلى أصحابه. ومع مرور الزمن، بدأت تلك العادة الجميلة التي كنَّا نتشوَّق لها في صغرنا بالانقراض؛ لأن الغموض كان يغلِّف البيوت حولنا، ولا نعرف أخبارها عبر مواقع تواصل اجتماعي، ولا نشمُّ سوى رائحة طهوها، وكان "الطَّبَق الدوَّار" يكشف لنا جانبًا من الغموض اللذيذ، ونحن نتسابق على التهام طعام الجيران الذي قد يأتي، حسب توقعاتنا، أو أقل، أو أكثر.
تمسُّكنا بالعادات والتقاليد بات مرتبطًا بالمزاج، أو المصلحة في بعض الأحيان. وكثيرًا ما تحوَّل الحلال إلى حرام؛ بدعوى العادات والتقاليد، فحتى اليوم تتذرَّع عائلاتٌ كثيرة، وتتمسَّك بعادة عدم إعداد كعك العيد في بيوتها؛ لأن رائحة الكعك في البيت تدلُّ على الفرحة، وهذه العائلة قد فقدت عزيزًا. وقد ضحكتُ فعلًا من موقف سيِّدة تشبه كثيرًا تلك التي طهت شوربة العدس، فهي لم تتوقَّف عن التذكير بأن لديها عزيزًا قد رحل، ولم يمرَّ على رحيله أربعون يومًا، ولذلك لن تُعِدَّ الكعك، هذا العام، ولكنها تردف أنها لا تمانع أن تستقبل أطباق الكعك الجاهزة من الجيران والأقارب. ونكتشف أن هذه السيِّدة تمتلك خطة لإدارة الأزمات، في أقوى صورها، فسوف تحصل على كمية من الكعك أكثر من التي كانت ستعدُّها في الأوقات الطبيعية، ومقابل ذلك لا تتوقَّف عن التذكير بفقد العزيز.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، كعك العيد الذي أصبح من عاداتنا العربية، وتحرص العائلات على تخصيص ميزانية له؛ حتى يقدَّم للضيوف، في يوم العيد، ذو أصول فرعونية. وكان يقدَّم في الجنائز، وليس له أيُّ جذور إسلامية؛ لكي نتمسّك بهذه العادة؛ تديُّنًا، والتي لم يؤثِّر بها الزمن، وإنْ دخلتها أساليب الحداثة؛ بتطوُّر الأفران والآلات التي تستخدم في إعداده، وخبزه.
في ذاكرة كلٍّ منَّا صورة لصاحب الفرن الذي كنَّا نخبز في فرنه كعك العيد، في طفولتنا. ولا تزال بعض الحارات الشعبية تحتفظ بالفرن العربي. ولصاحب الفرن عادة، أنه يحصل على رغيف من كلِّ سيِّدة تقوم بخبز أرغفتها الكثيرة لديه، بالإضافة إلى الأجرة، وكانت أمي تبتئس حين يحصل "الفرَّان" على الرغيف المقدَّس بالنسبة لها، فهي امرأة عاملة تجد مشقَّةً في صنع الخبز، وترى أنَّ رغيفًا سوف يفرق في حساباتها لتموين الأسرة الذي تعدُّه لأسبوع، مثلًا. وحين قرَّرتُ، بشقاوتي المعهودة، أن أسأل العم "الفرَّان" عن سبب استبقائه رغيفًا من خبز أمي، ردَّ ضاحكًا: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"... وكم كانت هذه العبارة، ولا تزال، سببًا لمآسينا ومشكلاتنا، وتعقيد حياتنا، حتى حين لم نكن نجد تفسيرًا لأيِّ أمر عسير، كنَّا نجدها جاهزة وشهيَّة؛ لكي نلتهمها في رضا، مثل كعك العيد، ورغيف أمي المقدَّس.