عادتي في العيش
أنهيت، قبل أيام، ستة أعوام بعد الخمسين من عمري، وضعت صورةً حديثةً جميلةً لي على صفحتي في "فيسبوك"، وتقبّلت تهاني الأصدقاء والمعارف، وتقبّلت مجاملاتهم الرقيقة التي تمدح قدرتي على مقاومة عوامل الزمن على وجهي. فرحت جداً بهذه المجاملات، مع يقيني أن الحقيقة هي غير ذلك، فأنا أراقب كل يوم خطوط الزمن على جبيني، وتحت عيني، وحول فمي، وأعرف أن الزمن جبّار، لا يمكن تحدّيه بسهولة، حتى بأحدث أجهزة التجميل، فما تفعله عمليات التجميل غريب. تؤخّر ظهور علامات الزمن فعلاً، لكنها تجعل الوجه منفصلاً عن باقي الجسد، كما لو أن أحدهم وضع رأساً آخر بملامح شبيهة، لكنها لجسد أكثر شباباً، إذ قد خضع هذا الجسد هو أيضاً لجبروت الزمن، ترهلات الجلد، عروق اليدين البارزة، خشونة الركب، أوجاع مفاجئة في الظهر في أثناء النهوض، تغيرات هرمونية ومزاجية تعاني منها النساء في هذه المرحلة من العمر. على الوجه أن يكون متناسباً مع هذا كله. لا بأس من تحسينات بسيطة، إذ إن بعض الرونق في وجه المرأة يعدّل مزاجها، ويعيد لها شيئاً من الثقة التي تخفُت كلما زادت تجاعيد الوجه. تعرف النساء هذا جيداً، حتى اللواتي يرفضن هذه التحسينات بذريعة التصالح مع الزمن.
لستُ مثلهن، لست متصالحة إلى هذا الحد مع الزمن. أشعر أحياناً أنني أحقد عليه. خانني هذا اللعين وغدر بي، إذ إنني للتوّ بدأت أكتشف جوهر الحياة. للتو بدأت بفهم ذاتي. للتو بدأت أعرف ما أريده من الحياة، ما أحبه وما أكرهه فيها. للتو بدأت الدخول في مرحلة التوازن بين الحكمة والجنون، بين الوعي والحدس، بين المنطق والاندفاع، بين الحقيقة والوهم، بين الحب والاحتياج، بين الرغبة والغريزة. للتو بدأت فهم كل هذه الثنائيات التي لا ننتبه لها في مقتبل أعمارنا، حيث نتبنّى فهم الثنائيات المعتادة، الخير والشر، الجمال والقبح، العدل والظلم، النور والظلام، الأنوثة والذكورة، الحياة والموت، تلك الثنائيات التي تشكل القيم الكبرى، بينما ثمّة ثنائياتٌ أخرى، لا تقل أهمية، لا نستطيع التقاطها إلا بعد أن يغدر الزمن بنا.
هل هذا ما يجعل بعضهم يتصالح مع فكرة التقدم بالسن ومع علائم الزمن؟ عنّي، أظن أن إدراكي ثنائيات أخرى جديدة عليّ ناتج عن الفقد، فمع التقدّم في السن نفقد الإقدام والاندفاع والحدس والوهم وأحلام اليقظة، نفقد الروح الشابة التي تختزن ذلك كله. يجعلنا هذا الفقد نستهين، إلى حد ما، بفكرة العيش، العيش بما هو الإقبال على الحياة، وليس فقط البقاء على قيدها، لكنني لم أستطع التصالح مع هذا الفقد، التصالح معه يعني أن أفقد الطريق نحو منبع الكتابة، نبع الشعر تحديداً، إذ لا شعر مع الحياد، لا شعر بدون ذلك التوق للإقبال على الحياة.
عليّ أن أشكر الشعر إذا، وأنا أتجاوز نصف القرن من عمري، عليّ أن أشكر الشعر الذي بفضله ما زلت أحتفظ بالحدس الملهم، وبالوهم الذي يجعل خيالي حرّاً، وبالغريزة التي تحوّل الحب إلى رغبة والحاجة إلى حب، وبالاندفاع الذي لولاه لشاخت ذاكرتي وشاخت معها مشاعري، وبالجنون الذي يشعل وهج الطاقة التي بي، فلا أكفّ عن البحث ولا عن التجربة ولا أتوقف عن الاختبارات. ولا أتوه عن الشغف والدهشة، ولا يغريني الاستسلام للزمن، فأركن إليه وأستكين. لم أحب يوماً الاستكانة، ليست جزءاً من شخصيتي، وإن حدث واستكنت واستسلمت، تلمسني يد الشعر الساحرة فأعود إلى عادتي في العيش.
لا أعرف إن كنت قرأتها أو أنني فكرت بها: "الحياة التي نعيشها تشبه بروفات للعرض الكامل، يجب أن يكون هناك حياة جديدة نعيشها بعد كل هذا التدريب الشاق، الموت مخرج فاشل"... ما الحكمة من الفقد؟ ذات يوم، قال لي الراحل منصور الرحباني، في أحد لقاءاتي معه، ونحن نتحدّث عن رحيل شقيقه عاصي، وعن المفارقة في فكرة الموت: "حين يجلس حفيدي في حضني، ويراقب وجهي بكل هذا الحب الطفولي الرهيب، أدرك أن كل جمال العالم يأتي من الفقد. لو أن هناك ديمومة وخلوداً لأصبح كل شيء باهتاً وبلا ملامح. الفقد وحده هو ما يصنع الحب والجمال"... لكن ما بي أتحدث عن الفقد؟ ربما لأنني لست متصالحةً مع الزمن كثيراً، ولا مع آثاره على جسدي، وأنني أفتقد وجهي المشرق وجسدي المشدود، لكنني أحاول قدر استطاعتي أن لا أفقد الوهج الذي في روحي، ربما هو ما مدحه الأصدقاء في صورتي. أما الشباب "فيا ليته يعود".