عالمي الافتراضي المفقود
كنت أعتبر حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بمثابة ابني الذي أربّيه وأراه يكبر يوما بعد يوم، وقد ولد في العام 2007، وكان يكبر أمام عينيّ يوما بعد يوم، فيراكم في قلبي فرحا فوق فرح، وبهجة فوق بهجة.
كان هذا الحساب يجمع أصدقاء من جميع أنحاء العالم، وبتوجّهات مختلفة تتفق على حبّ فلسطين، وخصوصا غزّة. ولذلك كنت أكتب دوما عن غزّة من قلبها ومن عمقها، ولا أضع أمام العيون القارئة صورة ظاهرة، بل أجبرت الجميع، في هدوء وسلاسة، على أن يغوصوا في عمق المأساة التي تُصنع وتُراكم عاما بعد عام في ظل الحصار والحروب والتصعيدات العسكرية المتتالية. ولذلك عملتُ على أن أكون قلما يتحدّث عنها، ولسانا من حروفٍ لا يتوقف مهما كانت الظروف العامة والخاصة.
حافظتُ على طفلي الذي ظلّ يكبر أمام عيني، وربطتني صداقاتٌ عميقةٌ مع صديقات وأصدقاء فشلت في تكوينها على أرض الواقع، ونما في قلبي حبّ ومشاعر نحو أولئك الذين يفتتحون صباحهم بكتاباتي، وارتبطنا معاً بمواعيد ثابتة، فصرتُ ألقي تحية الصباح على من يعيشون في بلادٍ نسبقها بساعات في فروق التوقيت، وكنتُ في كلّ مرّة أبتسم، وأشعرُ بسعادة، لأن هذه القرية الإلكترونية جعلتني أرسل تحيّة الصباح، وأنا أختتم يومي هنا وأستعدّ للنوم.
مرّت أحداثٌ قاسية، وتربّى طفلي الخامس خلالها وحافظت عليه، ولكنه حين أتمّ عامه السابع عشر، ومع حلول هذه الحرب الضروس، بل وفي عزّ أتونها، تمرّد عليّ وأفلت من بين أصابعي. وذات ليلة، وأنا ألوذ بتلك الحشية الإسفنجية المهترئة في غرفة من الصفيح فوق سطح أحد المنازل في رفح، منفاي الرابع، فوجئت أن ابني الذي كبُر قد تبخّر في الهواء، وأصبح الوصول إليه مستحيلاً، ولم يعد طوْع أمري وفي متناول يدي.
بكيتُ فوق حشيتي التي تتلقّف في وهن جسدي المتعب، وأنا أكتشف أن حسابي قد تعرّض لسرقة ممنهجة، طاولت كتّاباً ومثقفين فلسطينيين، من أشهرهم الكاتب المقدسي محمود شقير، وأُسقط في يديّ، وأنا أبكي فقدان هذا المراهق الذي قرّر أن يتمرّد ويفلت، وليس في يديّ حيلة لإعادته إلى قلبي وروحي.
باءت محاولات أصدقاء كثر من المختصّين في عالم الإنترنت لاستعادة الابن الضال، ومرّت بي أيام ثقيلة محمّلة بأمل واهٍ في عودته، وانهالت علي رسائل نصّية ومكالمات دولية وأخرى عبر تطبيقات ذكية مختلفة تتساءل عن غيابي، وتفتقد نبض غزّة الذي كانوا يطمئنّون عليه، وهو في حالة موته السريري الحالي من خلال كلماتي ولُهاث دعائي.
لم أجد بدّاً من أن أبدأ من جديد، وأن أربّي ابناً جديداً وسط كل هذا الموت المحيط بي، وإنْ شعرتُ بغربة، وصعوبة أن أصبح أمّاً وأنا في كل هذا العجز، ولكني كنت بحاجة لمشاعر الاحتضان والتربيت الافتراضي على الأكتاف، والعناق المتخيّل، والكفوف الماسحة على دمعٍ لا يجفّ.
في عالمي المتخيّل الافتراضي أصدقاء وصديقات فشلتُ في استعادتهم، واكتشفت أن عمق صداقتنا لم يكن ليتيح لي وسيلة وصول سهلة وسريعة، فاختلاف الحروف والكلمات واستخدام اللهجات المختلفة والرموز، وحتى الصور التعبيرية لكل حساب، جعل ذلك كله معضلة في استعادة من يملكون مكانة وحضوراً دائماً، وصار عليّ أن أتقصّى وأبحث للوصول إليهم مع حالات فشل مريعة، تحوّلت إلى استحالةٍ حوّلت قلبي إلى حالة حزن وفقدانٍ لا توصف، ولا يماثلها إلا فقدان ذلك الابن الذي أحسنت تربيته، وطار في لحظةٍ مثل أمّهات كثر فقدن أبناء قلوبهن في لحظة. وألقيت نظرة نحو أولادي النائمين على حشيات مماثلة لحشيتي، وإن كنتُ أخصّهم بأغطية أكثر ثقلاً من غطائي البالي، والذي أدّعي أنه يغمرني بالدفء في ليالي الشتاء القارسة.
هنا في رفح، أقصى الجنوب، وحيث الجهاد للبقاء، وحيث يخوض أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني معركة الحرب المعلنة، ومعركة الحرب المخفيّة مع الجوع وتجّار الحروب، يبكي طفلي الجديد الوليد، فأضمّه إلى صدري، وألقمُه حروفاً ووجعاً فيسكت، ولا أدري إلى متى سأظل أفعل ذلك؟ ولكني سأفعل ما استطعت، لكي لا أموت مرّتين.