"عامل ترامب" وبناء الدولة السورية
أحببنا ذلك أم لم نُحبّ، سوف يكون لسياسات إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، أثر عميق في التحوّلات التي تشهدها سورية بعد سقوط بشّار الأسد ونظامه، وانطلاق عملية إعادة بناء الدولة، فقد تضع إدارة ترامب العراقيل في وجه هذه العملية وقد تسهل حصولها، وفي الحالتين ستكون لذلك تداعيات كبيرة على الواقع السوري. نحن هنا نتحدّث عن احتمالات تتراوح بين السقوط في الفوضى وبناء دولة مستقرّة ومزدهرة، وشتّان بين الاثنتين، فالموقف الأميركي مُعطىً مهمّ هنا لأسباب ثلاثة جوهرية، أولها متّصل بالعقوبات التي يُعتبَر رفعها شرطاً لازماً وضرورياً لإعادة بناء الاقتصاد السوري المدمّر، وعلى أساسه سوف تقدّم الدول الأخرى (أو تُحجِم) عن مدّ يد العون، والاستثمار، والمشاركة في عملية إعادة الإعمار.
عملياً، لن يمكننا المضي بعيداً في أيّ شأن سياسي أو اقتصادي أو أمني ما لم ترفع الولايات المتحدة عقوباتها عن سورية. السبب الثاني متّصل بالوجود العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات، ودعم المليشيات الكردية التي تسيطر على نحو ربع مساحة البلاد، وأكثر مصادر ثرواتها الطبيعية، من نفط وغاز وموارد مائية ومحاصيل استراتيجية، وبدونها لن يكون بمقدور أيّ حكومة في دمشق النهوض بالاقتصاد والاعتماد على مواردها الذاتية في بناء الدولة. نحتاج هنا إلى تعاون الولايات المتحدة أو (أقله) عدم عرقلتها جهود توحيد الدولة السورية، عبر حلّ المليشيات الكردية، وتسليم سلاحها، وإدماج من يرغب في القوات المسلّحة الجديدة. السبب الثالث متّصل بالاعتداءات الإسرائيلية على الأرض السورية، والذي نحتاج معه تعاوناً أميركياً لوقفها.
تفيد المعطيات الأولية بأن الرئيس ترامب لا يبدي شخصياً اهتماماً يُذكَر بسورية، فقد سبق ووصفها بأنها "بلاد الموت والرمال". وخلال تقدّم قوات عملية ردع العدوان نحو دمشق، كتب قائلاً: "سورية في فوضى، لكنّها ليست صديقتنا، وينبغي للولايات المتحدة ألّا يكون لها أيّ علاقة بما يحدث. هذه ليست معركتنا". بدا موقف ترامب حينه سالباً، لأن تدخّل إدارة جو بايدن منع إيران من إرسال مليشياتها من العراق لدعم نظام الأسد. ورغم أن ذلك ما كان ليغيّر نتيجة المعركة، إلا أنه كان يمكن أن يجعل تكلفتها أكبر، ومدّتها أطول.
السؤال الآن: كيف يمكن جعل موقف ترامب من التغيير في سورية إيجابياً، أو على الأقلّ غير معرقل؟ يمكن التفكير هنا بعدّة خطوات، منها مثلاً إرسال الإدارة الجديدة في دمشق، من باب البروتوكول والدبلوماسية، برقيةَ تهنئة لترامب، بمُجرَّد تنصيبه رئيساً في 20 من يناير/ كانون الثاني الجاري، فيها "كثير" من الإطراء والمجاملة. أحد الأصدقاء اقترح حتى إرفاق البرقية بدعوة لزيارة دمشق، وحتى الاستثمار فيها. وإذا تجاوب ترامب، كما فعل لدى زيارته كوريا الشمالية، فسوف يكون أوّل رئيس أميركي يزور سورية منذ 30 عاماً (تبدو الفكرة مجنونة، لكن هذا تماماً ما يُحبّ ترامب فعله). يحتاج الأمر طبعاً إلى كثير من العمل للفت انتباه ترامب، وجذب اهتمامه. من المهم ثانياً أن يدرك ترامب أن استقرار سورية يقلّل من احتمالات اندلاع حروب جديدة في المنطقة تورّط الولايات المتحدة، وأن الاستقرار والرخاء يعدّان مزيجاً مثالياً لمنع صعود التطرّف والإرهاب، وسياجاً متيناً في وجه اللجوء والهجرة.
وتعدّ محاربة الإرهاب ومنع تدفّق اللاجئين من أبرز أولويات إدارة ترامب داخلياً ودولياً، واستقرار سورية يخدم الهدفَين معاً. استقرار سورية يسمح أيضاً لترامب بسحب قواته من شرق الفرات، ويحدّ في الوقت نفسه من تأثير إيران ونفوذها، وقد يفيد كذلك في تحويل شركات الطاقة الأميركية شريكاً رئيساً في أيّ مشروع لنقل الغاز أو النفط من الخليج إلى أوروبا عبر سورية. لكن هذا كلّه لن يكون كافياً لإحداث التغيير المطلوب، خاصّة أن تهم الإرهاب تلاحق الحكم الجديد في دمشق، لذلك من المهمّ التوجه نحو تشكيل هيئة أو مجلس حكم أو حكومة (التسمية ليست مهمّة)، تضمّ أوسع طيف ممكن من القوى السياسية السورية، وتبني سياسات داخلية وخارجية متوازنة، وبنّاءة، من شأنها أن تسحب الأجواء السلبية كلّها تجاه التغيير في سورية. من شأن ذلك أن يعزّز السلم الأهلي، ويسهم في توحيد النسيج الاجتماعي السوري الممزّق، وينتزع اعترافاً دولياً بالحكم الجديد، ويشجّع ترامب على دعم التغيير في دمشق بجزئيَّتَي رفع العقوبات وسحب القوات.