في الطريق نحو الدولة في سورية

01 يناير 2025
+ الخط -

بعدما استوعبنا واقعة سقوط الأسد ونظامه، واستنفدنا الفرحة بهذا الإنجاز التاريخي للشعب السوري، بدأ التفكير بتحدّيات المرحلة المقبلة يلحّ بقوة من أجل تأمين انتقال سلس يجنّب البلاد خطر الانزلاق نحو الفوضى أو التقسيم (لا سمح اللهّ!). ورغم أن السوريين اشتغلوا (وكذلك الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية) منذ عام 2012 على خطط للانتقال السياسي، إلّا أن السرعة والطريقة التي انهار فيها النظام وضعت الجميع أمام واقع جديد لم يمتلك أحد إزاءه تصوّراً واضحاً بشأن شكل المرحلة الانتقالية ومخرجاتها، خاصّة أن أكثر الخطط الموجودة كانت تفترض وجود النظام طرفاً في الانتقال، بما فيها قرار مجلس الأمن 2254، الذي تجاوزته الأحداث، وصار يمثّل، لدى جزء معتبر من السوريين، وصفةً للتدخّلات الخارجية.
الخلاف على شكل المرحلة الانتقالية ومخرجاتها أمر طبيعي، لأن الانتقال بالتعريف هو مرحلة تدافع تحاول خلالها مختلف الأطراف حجز مكان لها فيه، وتوجيه مساره بما يخدم مصالحها، ما يفسّر التزاحم الذي نراه اليوم في دمشق. ويتركّز الاهتمام خلال المراحل الانتقالية، بحسب التجارب التي نعرفها، حول سؤال مركزي هو: "من يأخذ ماذا؟". ويتسبّب التدافع هنا عادةً، في غياب القواعد التي تنظّمه، في صراعات قد تصبح عنيفةً إذا ظلّ السلاح منتشراً بين الناس، أو في أيدي القوى التي اجتمعت على إسقاط النظام القديم. حصل هذا في إيران بعد سقوط الشاه (1979)، وفي أفغانستان بعد سقوط محمّد نجيب (1992)، وفي لبيبا بعد سقوط معمّر القذّافي (2011)، وفي غيرها. حتى نمنع ذلك في سورية، ويجب أن نمنعه، في ظلّ تحفّز الخارج ومراقبته، وبقاء أجزاء كبيرة من سورية في أيدي فصائل مسلّحة ومدعومة (أو تنشد دعماً) من قوىً خارجية لا تبدي ارتياحاً للتغيير في دمشق، يجب أن ينصرف الاهتمام حالاً نحو الاتفاق على شكل الدولة التي يريدها السوريون، ثمّ وضع خريطة طريق للوصول إليها، قبل التفكير في مواقعنا فيها. إذا اختلفنا على "من يأخذ ماذا؟" في دولة غير متّفق عليها، أو على قواعد إدارتها، فهذا يشكّل وصفةً لصراعات قد تؤدّي إلى انهيار الدولة القديمة قبل أن نبني الدولة الجديدة.
الرؤية التي قدمّها أخيراً رئيس الإدارة الجديدة في دمشق أحمد الشرع يمكن أن تشكل منطلقاً لمرحلة انتقالية، بشرط أن تأتي نتيجةً لمشاورات واسعة بين مختلف القوى السياسية، وليس طرحاً يقدّمه طرف لتقوم بقية الأطراف بتنفيذه أو السير فيه. الإحساس بالمشاركة والشعور بالاعتراف يجنّبنا خطر الوقوع في الاستقطاب والانقسام الذي دفعت ثمنه غالياً كلُّ دول الثورات العربية، خاصّة منه الاستقطاب الإسلامي – العلماني، الذي أخذ يذر بقرنه مبكراً في سورية، ويهدد بفشل الانتقال، وقد يستدعي (إذا تفاقم) تدخّلات خارجية مدمّرة، بحجّة حماية الأقليات، أو المرأة، أو حقوق الإنسان، أو غيرها من الذرائع التي تستخدم عادة عندما لا يخدم التغيير في مكان ما مصالح القوى الخارجية.
بعد نحو 13 عاماً من العمل على الخطط الانتقالية، لن يعيد السوريون اختراع العجلة، فأغلب الخطط، بما فيها التي طرحها الشرع، تتحدّث عن حكومة انتقالية تتولّى ضبط الأمن، وتحسين أوضاع الناس المعيشية، والدعوة إلى مؤتمر عامّ تنبثق منه لجنة منتخبة منه، أو من الشعب، لوضع دستور جديد يجري الاستفتاء عليه، فيما يجري العمل بالتوازي على قانون أحزاب وقانون انتخابات تُنظّم على أساسه انتخابات برلمانية أو رئاسية أو الاثنتين معاً، بحسب شكل النظام السياسي الذي يُتفق عليه. لا توجد خطوات أخرى كثيرة خارج هذه المراحل الرئيسة. ويمكن أن نسير بأسوأ الخطط الانتقالية بشرط التوافق عليها والمشاركة في ترتيبها وتنفيذها. هذه هي الخطوات هي التي ستحدّد شكل الدولة وبناءها المستقبلي، ويجب أن يكون لكلٍّ نصيب في وضع لبناتها قبل حجز مكان فيها. ولن يهم أيضاً عدد السنوات التي تستغرقها المرحلة الانتقالية، طالما أن الجميع مشارك فيها. الإقصاء والتهميش هنا هما وصفة ناجحة للفشل. المؤتمر الوطني الذي دعت إليه الإدارة الجديدة في دمشق يمكن أن يمثّل منطلقاً لإرساء توافق وطني على خطوات الانتقال إلى الدولة السورية الجديدة، إذا جرى الإعداد له بشكل جيّد، علماً أن النقاش بمشاركة 1200 شخصية قد لا يكون مجدياً، لكنّ عدم الاستعجال والتحضير الجيّد يبقى الأساس.