عقدة المظلومية والضحايا الجدد
المسلسل الكوبي ــ المكسيكي يوميات الجريمة (أو كولميناريس خرج ولم يعد)، وهو يعرض حاليا على منصّة نتفليكس (إنتاج عام 2019)، قصير من ثماني حلقات، ومستوحى من أحداث حقيقية. يُعثر على جثة الطالب الجامعي لويس أندريس كولميناريس في قناة صغيرة في العاصمة الكولومبية بوغوتا ليلة الهالوين عام 2010. وتتّجه الأنظار إلى مجموعة من زملائه كانوا معه في السهرة، وتتهم صديقتان له بإخفاء حقيقة أن موته جريمة قتل قام بها زميل لهم ينتمي لعائلة متنفّذة في السياسة والاقتصاد. تُسجن الفتاتان المتحدرتان أيضا من أسرتين لهما نفوذ قوي في السياسة، وتنتميان إلى العِرق الأبيض، بينما كان كولميناريس الوحيد بين مجموعة الزملاء الجامعيين الذي تعود أصوله إلى السكان الأصليين للبلاد، ما منحه لون بشرة غامقة، حتى أن زملاءه يلقبونه بالأسود من دون أن يثير ذلك حفيظته.
تسعى أسرة كولميناريس إلى الكشف عن أسباب وفاته. يتفق جميع زملائه على رواية واحدة، أنهم كانوا قد شربوا الكحول بكثرة تلك الليلة، حين اكتشف أن الفتاة التي يحبها ما زالت تميل إلى حبيبها السابق، يغضب ويركض مبتعدا حيث يصطدم بحافة القناة ويسقط فيها ميتا. ولكن عائلته تصرّ على أنه جرى قتله بدم بارد، ما يجعلها تلجأ إلى كل الوسائل لاكتشاف خيطٍ يوصلها إلى الحقيقة، بما في ذلك الاستعانة بمحضّرة أرواح، كي تستحضر روح ولدها، علّها تدلها على ما حدث.
يكتشف صحافي، يلقب أيضا بالأسود، الحدَث فيقرّر متابعته، كون الشاب الميت من السكان الأًصليين من الطبقة المتوسّطة، وكون المتهمين من أصحاب النفوذ البيض، هي قصة وجد أنها تعنيه بشكل مباشر لأسبابٍ عِرقية، ويمكنه أن يُحدث بها سبقا صحافيا يحسّن ظروف عمله ومكانته في المطبوعة التي يعمل فيها.
في أثناء مجريات التحقيق، يمكننا أن نكتشف حجم الانقسام المجتمعي الطبقي العرقي في المجتمع الكولومبي، وكم يترك هذا الانقسام أثرا على العدالة والحقيقة، وكم يوظفه الجميع في السياسة والتحصل على المكاسب المستحقة أو غير المستحقّة، وهو ما يظهر في المسلسل عبر الأحداث، فتعيّن الولاية مدّعيا عاما جديدا ليكشف الوقائع، المدّعي العام من السكّان الأصليين، ومثقلٍ بالمظلومية التي يعاني منها أبناء عرقه، فيحاول أن يأخذ التحقيق نحو اتهام الطلبة البيض بالقتل العمد، ولا يكتفي بهذا، بل يلفق شهودا ويلفق على ألسنتهم أحداثا متخيّلة كي ينهي التحقيق باتهام رسمي بالقتل العمد. ليس المدّعي العام وحده من يفعل هذا، بل المحامي الأبيض الشهير الذي يوافق أن يكون محامي الاتهام لدى أسرة الضحية عبر التركيز على قضية السكّان الأصليين والبيض المتنفذين، وكذلك محضّرة الأرواح التي تكتشف والدة الشاب كيف تستخدم المحضّرة قضية ابنها من أجل قضية سياسية.
يوجّه صنّاع المسلسل الأنظار بشكل ذكي إلى التشاركية بين السلطة المتنفذة وأصحاب المظلومية في نبذ العدالة وإقصائها، وفي طمس الحقيقة في كل القضايا المهمة. يتشابه أصحاب المظلومية في وقت ما مع جلاديهم، ويصبحون جلادين جددا غير معنيين سوى بقضيتهم، حتى لو كان السبيل هو مزيد من الفساد والظلم والضحايا الأبرياء.
نتعاطف جميعا تلقائيا مع أصحاب المظلوميات، ونتبنّى قضاياهم العامة والشخصية من دون نقاش، وكأن حملهم مظلومية طويلة يبعد عنهم شبهة الشر أو الخطأ أو الظلم. يتساوى في هذا كله أصحاب المظلوميات: العرقية أو الدينية أو الجنسية أو الوطنية. سوف نجد أنفسنا نميل مباشرة إلى تصديق اتهامات أبناء المظلوميات ضد آخرين من دون أن نتحرّى عن الحقيقة، وسنميل إلى الموافقة على إعطائهم الأولوية في كل شيء، حتى لو كانوا غير جديرين بذلك.
نحن نصدّق ما تقوله أي امرأة ضد رجلٍ لمجرّد أنها امرأة، ونعطي للمثليين الأولوية لمجرّد أن اضطهادا تاريخيا مورس عليهم، ونبرّر ما ترتكبه الأقليات بسبب الإقصاء التاريخي، ونتغاضى عن كل الفواحش التي يرتكبها أصحاب القضايا الوطنية بذريعة النضال. ننسى في خضم هذا الميل نحو المضطهدين أنهم بشر فيهم نوازع الشر مثلما فيهم نوازع الخير، وننسى أن المظلومية تعيد إنتاج الاضطهاد وتعيد إنتاج الضحايا.
تمّت تبرئة زملاء كولميناريس من تهمة القتل واعتبر موته مجرّد حادثة، بعدما تم فضح تزييف المدّعي العام الأدلة. .. بقيت الحقيقة مجهولة، تاهت في كواليس المظلوميات وقنواتها المظلمة.