على حافة انهيار .. عصبي
نستعير من المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار عنوان أحد أجمل أفلامه، "نساء على حافّة انهيار عصبي"، لتوصيف حالةٍ معمّمة يعيشها اللبنانيون كافة، وتتضّح في سلوكهم اليومي، وفي تعاطيهم مع الشأنين، الخاص والعام، وذلك على الرغم من الأرقام المرعبة التي تُنشر عن نسبة تعاطي اللبنانيين جميع أصناف العقاقير والمهدّئات العصبية، كزاناكس وبروزاك وسبراليكس وأتاراكس ونورموكالم، وتبادلها، نصائح وحبوبا، مع اختبارها وتجريبها، كما لو كانت سكاكر شهيةٍ بألوانٍ ونكهاتٍ مختلفة.
ومظاهر الانهيار العصبي هذا، بما يشمله من شعورٍ حادّ بالاكتئاب وفقدان الشهية إلى الإتيان بأي مجهودٍ خارج الحدّ الأدنى الذي يُتيح البقاء على قيد الحياة، والشعور بانعدام القيمة الذاتية، وبالانزلاق تباعا إلى مرتبةٍ هي ما دون أدنى خلق الله، وأكثرهم عرضة للّعنات، تنقسم إلى نوعين: منها ما يوضع في باب الهستيريا والتوتّر العالي ورغبة التدمير والإيذاء، موجّهة إلى الذات، أو إلى الآخرين. ومنها ما يستدعي، على العكس، حالة من الكمون والضمور والاستكانة، ترافقها مقدرةٌ هائلةٌ على ابتلاع الإهانات ومضغ الذلّ وشعورٍ بالعجز، يستتبعه رضوخ تام لواقع الأمر، مع غياب أي استجابةٍ أو ردّ فعل. لكأنّ جهاز المناعة لدى هؤلاء، وهم الأكثرية على ما تُشير إليه الوقائع والدراسات، قد تلقّى ضربةً قاصمةً في عموده الفقري، أدتّ إلى شلل تام في العصب الرئيس المسؤول عن توزيع المشاعر والأحاسيس.
أجل، اللبنانيون جميعا مصابون بانهيار عصبي. يكفي أن تراهم من وراء زجاج سياراتهم، مصطفّين بالمئات من أجل كم ليتر وقود، أو أمام رفوف السوبرماركت يتأمّلون البضائع ويحاورون أسعارها التي بلغت حدّ السماء، أو في تعاطيهم مع الأزمة الاقتصادية أو مصيبة فقد أموالهم التي نهبتها المصارف. فمنذ أيام، على سبيل المثال، صرّح أحدُ النشطاء ممن شاركوا في ثورة 17 تشرين، بأنه سعيد لفقد ابنه الشاب في حادث سيارة. أجل! هذا ما قاله حرفيا أمام عدسة الكاميرا، مضيفًا أنّ ابنه، برحيله، بات في مأمنٍ من هذه البلاد، وقد خلص بالموت من حاضر سيئ ومستقبل أسود مجهول. وإذ وُضعت صورةُ ابنه على الشاشة، فرطنا، نحن المشاهدين، بالبكاء، لكلّ هذا البهاء ولكمّ الإقبال على الحياة التي يضجّ بها هذا الوجه الفتيّ الجميل. بكينا نعم، لكننا استوعبنا الرجلَ وفهمنا مقصده، فلم نقل إنه فقد الصواب لهول الصدمة، أو إنه في حالة اضطرابٍ جعلته ينطق بما لا يستوعبه عقلٌ أو قلب.
والحال أنّ من امتلك من اللبنانيين جنسيةً أخرى، سافر أو هو قيد الإعداد لسفره، ومن أنهى دراسته الجامعية يبحث مستميتا عن فرصة عملٍ في الخارج، تنقذه من هذا الجحيم. أما البقية من الباقين في البلاد، فهم يسعون إلى نكتةٍ تخفّف عنهم ثقلَ الأوضاع. نكاتٌ ومزاح وتعليقات وصور كاريكاتور لا تزيح غمّا ولا تشفي غليلا، مُظهِّرةً السؤال إياه الذي لا نني نطرحه جميعا: كيف نحتمل هذا كلّه، وكيف لا نثور في وجه تلك الطغمة المجرمة الفاسدة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه؟ نسأل، مقاومين شعورا بالذنب، يختبئ في قعر سؤالٍ هو سؤال الضحيّة بامتياز: ماذا فعلتُ لأستحقّ هذا؟ ماذا فعلتُ، كأنّ المصاب لا يأتي من دون مسبّب، أو أنه لا يأتي إنْ لم تسمح له، أو لا يأتي إلا إذا استدعيتَه.
ندرك، نحن اللبنانيين، وإن كنّا لا نستحقّ هذا كلّه، أن ثمّة يدا لنا فيه، أن الذين ينكّدون عيشنا ويصنعون بلاوينا اليوم، هم المسوخ والوحوش التي خلقتهم حروبنا وطائفيتنا وعصبياتنا، أمس. لقد تركناهم طويلا دونما محاسبة، بل إننا حتى انحزنا إليهم، ودافعنا عنهم، وكافحنا كي لا يهتزّ سلطانهم. واليوم؟ نتندّم على ذنوبنا المزعومة وبراءتنا الموهومة.