عندما أخطأت جائزة نوبل للسلام
استضافت قنوات تلفزية تونسية خاصة الأمين العام الأسبق للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، والاتحاد أعرق النقابات في العالم العربي وأكبرها إشعاعاً دولياً، ليدلي في أثناء محاورته بتصريح شكل صدمة حقيقية، غير أنه مرّ تحت صمت رهيب، ووفق ضغط "دوّامة الصمت" التي حدّدت ملامحها عالمة الاجتماع إليزابيت نيومان التي أبدعت، في سبعينيات القرن الماضي، تحليل آليات إقصاء الرأي المخالف، حتى في ظل الديمقراطيات العريقة، يقول الرجل بكلّ تفاخر، متباهياً بالدور الذي لعبه الاتحاد خلال العشرية الأخيرة: "لم نترك حركة النهضة تلتقط أنفاسها". وجاء في تصريحاته التي تعدّدت في مختلف القنوات التي استدعته لاحقاً على عدة تفاصيل عن مبادرات عدّها إنجازاً، حين دفعت "النهضة" إلى تلك الإخفاقات الذريعة.
ورث الاتحاد تراثاً وطنياً ونضالياً مجيداً، فهو الذي بذل مؤسّسه في الحقبة الاستعمارية، الراحل فرحات حشّاد، روحه فداء للوطن ونضالاً من أجل رخاء طبقة الشغيلة. استهدفته يد الاستعمار واغتالته قبيل استقلال البلاد. ومع نشأة الدولة الوطنية عرف الاتحاد منعرجات عديدة طبعت تحالفات قياداته أحياناً مع السلطة الحاكمة وتمرّداتهم أحياناً أخرى عليها. ظلت المواقف ملتبسة متعدّدة ومختلفة، ولكنها اتسمت عامة بهذا الميل إلى الجنوح، رغم ضغوط القيادات البيروقراطية من حين إلى آخر، والتي وصلت إلى حد الطرد لمن أراد تجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها لهم السلطة في حيز المعارضة تلك.
ساهم الاتحاد مساهمة فعّالة في الثورة من خلال معارضات ضخمة قادها في جهات عديدة تحديداً في مدينة صفاقس، وذلك تحت ضغط القواعد النقابية التي ناهضت مواقف القيادة التي ظلت تراهن على بن علي، مخيّرة بين الوقوف على الحياد والتردّد، وشكّل ذلك منعطفاً حاسماً في انتصار الثوار ورحيل زين العابدين بن علي.
خضعت أكثر من حكومة إلى إملاءات الاتحاد، وذلك ما أثقل ميزانية الدولة
غير أن مواقف الاتحاد ستتغير كلياً مع انتخابات 2011، والتي ستصعّد "النهضة" وحلفاءها إلى سدّة الحكم. عمل الاتحاد من خلال تحطيم أرقام قياسية في الإضرابات بلغت، حسب إحصائيات المكتب الدولي للعمل، الآلاف خلال سنة. كان الاتحاد قد دخل في معركة كسر العظام مع من حكموا إبان فترة الترويكا وحتى ما بعدها. استغل تلك الفرصة التي كان فيها الحكم آنذاك ضعيفا من أجل تمرير كل مطالبه التي استجابت لها الحكومات صاغرة، أي تلك الزيادات الكبيرة في الأجور من دون مراعاة صعوبات الظرف. ابتزّ الحكومات المتعاقبة من أجل مراكمة غنائم الحرب التي أعلنها ضد من حكموا. كان أكثر من مليون عاطل عن العمل ينتظرون تشغيلهم، غير أن الاتحاد منح الأولوية المطلقة للزيادة في الأجور. خضعت أكثر من حكومة إلى إملاءات الاتحاد، وذلك ما أثقل ميزانية الدولة. ولم يقف الأمر عند هذا، بل تعطّلت آلة الإنتاج في جل مواقعها، لعل أهمها الفوسفات. تحوّلت تلك الشركة إلى دجاجة تبيض الذهب، والكل يتكالب على ذبحها، حتى غدت عبئاً على الدولة التي تدخّلت في مرّات عديدة من أجل إعادة رسم توازناتها المالية، وهي التي عجزت أحياناً عن دفع أجور موظفيها. غادرت تونس ترتيبها وخرجت أصلاً من المراتب العشر الأولى، وخسرت حرفييها، وشلّت جل القطاعات المنتجة الأخرى على غرار البترول والسياحة، فضلاً عن جلّ الخدمات العمومية على غرار الصحة والتعليم... إلخ.
لا يمكن فهم تجربة الانتقال الديمقراطية وإخفاقها في تونس من دون إدراج الدور الذي لعبه الاتحاد في هذه المآلات الحزينة
ما الذي يبرّر كلّ هذا الذي قام به الاتحاد؟ لا أحد يجد تفسيراً مبرّراً لكلّ ما حدث، خصوصاً أنّ حركة النهضة لم تبادر مطلقاً، رغم كل ما استهدفها منه إلى محاكمة أي نقابي، والاتحاد يراكم ميزانية طائلة من هذه الموارد العمومية. والتفسير الوحيد هو الموقف السياسي المدمّر الذي يسري في قناعات يسار متحجّر يرهن الاتحاد التونسي العام للشغل إلى إرادته، وكان مستعدّاً لحرق التجربة والبلاد معاً، على ألا تحكم حركة النهضة التي عجز اليسار عن هزيمتها من خلال صناديق الاقتراع، فاتخذ من الاتحاد قلعة خاض بها ومنها حروبه معها.
يعي الأمين العام السابق للاتحاد أنّ الأمر لم يكن مجرّد نضال نقابي مطلبي، المراد منه تحسين الوضع المادي للعمّال، بل كان الموقف سياسياً محضاً، يتعلق تحديداً بإنهاء التجربة وتحقيق ما عجز عنه خصوم "النهضة". وعلينا أن نتصوّر ماذا كان يخططه عتاة اليسار، حين ندرك أنّ الرجل كان ولا يزال محسوباً على الخط العاشوري (نسبة إلى الزعيم الحبيب عاشور) المعتدل.
فاز الاتحاد، مع ثلاث منظمات أخرى، بجائزة نوبل للسلام عن الحوار الوطني الذي رعاه، والذي كان من أهم نتائجه خروج "النهضة" من الحكم، غير أنها عادت إليه بعد انتخابات 2014، وذلك ما سيدفع الاتحاد إلى العودة إلى محاربة حركة النهضة، حتى ولو وقع السقف على الجميع. وها إن الاتحاد يقف شاهد زور على الانقلاب يتزلّف إليه تارّة ويعاتبه تارة أخرى ولا يقدر حتى على المطالبة بإطلاق النقابيين الذين سُجنوا بسبب ما كان يعدّ نضالاً نقابياً. وبذلك كله، لا يمكن فهم تجربة الانتقال الديمقراطية وإخفاقها في تونس من دون إدراج الدور الذي لعبه الاتحاد في هذه المآلات الحزينة.