عندما تُعشق المدن
قبل سنوات كثيرة، عشت مع القدس، تلك المدينة الأسيرة، وأصبحت طقوس حياتي ترتبط بصباحات أحد أبنائها المخلصين، ففي كلّ صباح هناك رائحة خبزها الشهيّ التي تشعُّ من الحواري والأزقة في بلدتها القديمة، وهناك الصلوات الفجرية التي تغسل الروح، ومع شروق الشمس، فأنت تسير عبر الأزقة القديمة، لتأكل من حلوى الدكاكين القديمة، وتمشي بمتعة، ومن دون عجلة، أو ملل، تحت الأشجار المعمّرة التي تحتضن القبّة الذهبية، وتسمع ضحكات السيِّدات المسنَّات، القادمات من القرى المجاورة والمُيَمِّمات شطر ذلك الحزن المغلَّف بأسوار؛ ليبعن عروق الخضرة التي تشبه عروق أيديهن الظاهرة الراوية لحكايات نضال وشقاء وثبات.
لستُ الوحيدة التي تفتتح صباحاتها مع مدينة القدس، فهناك آلافٌ في العالم ممن يعشقون المدينة، ولم يدخلوها، وممن تبعثروا في أنحاء الأرض، وهم يحملون ذلك الحب والتعلُّق بالوطن، بكل ما فيه، خصوصاً المدينة الأسيرة، بمساجدها وكنائسها، فأصبح حائط المقدسي عيسى القواسمي، والذي يمارس مهنة الخياطة أيضاً، بمثابة القاموس والمرجع لكلّ ما حدث ويحدُث في القدس، منذ فتح عينيه على الحياة اليومية فيها، حياة العمل اليومي والنضال الوطني.
يصنَّف عيسى القواسمي الذي يعرفه كلُّ مقدسي يعيش في هذه المدينة كاتباً فلسطينيّاً، إذ يحرص على نقل واقع المدينة المقدسية وتفاصيلها بالصور، للمتلهِّفين من خارج المدينة، فيتجوَّل يوميّاً في أزقة القدس العتيقة، ويصوِّر ما يرغب فيه، أو يطلبه منه متابعوه على شبكات التواصل الاجتماعي. وبالإضافة إلى الرواية بالصورة، يستمع الروائي المقدسي لحكايات الناس من تجَّار وسكَّان وزُوَّار؛ ليكمل بها المشهد، ويثري بها الصورة التي ينشرها.
وقد أصدر عيسى القواسمي كتابه الجديد "حبيبان"، وهو نصوص أدبية مدعَّمة بصور مشتركة، مع شقيقه المصوِّر شهاب القواسمي، والذي لا يقل عن أخيه ولعاً بالمدينة، ويمكنك أن تقول إنّ الشقيقين هما صورة وريشة تخدمان تلك المدينة الشامخة والمكافحة.
يقول عيسى القواسمي عن ولعه بالقدس وحرصه على توثيق تاريخها: "عشتُ في القدس، كما ينبغي لعاشقٍ متشرِّد مقيم فيها، تارّة بالأمل، وأحياناً أخرى بالدموع والحرمان معاً، كان بيت أبي الذي هُدم يقبع في الجهة الشرقية، بعد تلك القنطرة الأيوبية مباشرة، والتي كانت تأخذنا إلى حوش الشاي، من حارة الشرف، من حي المغاربة الملاصق لسور القدس، والذي أوقفه صلاح الدين الأيوبي لجيوشه، من أصل مغاربي، بعد تحريره القدس من أيدي الصليبيين".
وعن مدى حبّه القدس، منذ صغره يتحدّث أنه، وفي طفولته السريعة، كلما كانت والدته تبحث عنه، بعدما يغيب عن ناظريها تجده جالسًا فوق بلاطة المصطبة المملوكية لشبَّاك بيتهم الصغير المطلّ على المصلَّى القبلي، وقبة الصخرة المذهبة، ذاك البيت الذي هُدم مباشرة، حين هدم حيُّ المغاربة، بعد نكسة حزيران (يونيو 1967)، وكان طفلاً في السادسة من عمره.
يحقُّ لنا اليوم أن نبرق بالتهنئة إلى ذلك الرفيق والسفير الذي رافقناه، وصحبناه، على إصداره الجديد، والذي يحمل اسم "حبيبان" حيث تكتشف أنّ سرَّ الاختيار يحمل تأويلين؛ فهذا الكاتب المقدسي المولع بحب القدس قد اكتشف قصة حب، لم يتردّد في البوح عنها، في كتاب مصوَّر ضخم يحمل اسم "حبيبان"، وفي الوقت نفسه، هو يحبّ شقيقه الذي رافقه في رحلة عمره، وهما "حبيبان" ابنان لأمٍّ مقدسية.
في كلِّ نص من نصوص "حبيبان" الـ59، تمطَّى القواسمي بلذّة استرجاع الذكريات الجميلة البعيدة، بدءاً من طفولته، فوثَّق بأسلوبٍ نثري بسيط وراقٍ ملامح القدس البائنة للعيان، وخفاياها التي لا يعرفها إلّا أهلها والمتيَّمون بحبِّها، وتوزَّعت قصص المقدسيين وكلماتهم المعبَّقة بروح الكفاح والأصالة، ومرّوا على أسلوب حياتهم المميَّز والمقتصر عليهم. وعبر 167 صفحة ضمَّها الكتاب، وتوزَّعت صوره واللوحات المهيبة لشقيقه الرسام شهاب، بإتقان، فتناثرت بورودها وأشجارها ومعالمها، بين دفَّتي الكتاب؛ لكي تمتصّ بعض الحزن العابق والعالق ببوح الكاتب المقدسي، وأهل مدينته التي سيبقى راوياً لقصة عشقه لها.