عندما يحاصر لوبيز الأسد في جنوب سورية
لا تنفع المقارنة بين بشّار الأسد وفرانسيسكو سولانو لوبيز (رئيس باراغواي بين 1862 - 1870)، رغم وجود تقارب مُؤكّد في البنية التشريحية لدماغيهما، ووجود تقارب آخر في الجانب السيكوباتي المُظلم في شخصيتهما، لكنّ الأسد بمقدوره مجابهة كلّ تلك المقارنة بلا تردّد، ودحر لوبيز في أيّ سباقِ تنافسٍ افتراضي قد ينشأ بينهما على استقدام الخراب، ومن ثمّ تعميمه، ويستطيع رئيس النظام السوري التمسّك هنا بأدلةٍ دامغة تتيحُ له البرهنة على تفوّقه المُؤكّد ذاك. فكلُّ ما فعله لوبيز المسكين لا يتعدّى كونهُ قطع شوطاً مُهمّاً في التجريب السياسي والعسكري، حين خاض حرباً بلا مناسبة مُقنعة تُجيزها، أو مبرراتٍ كافية لافتعالها ضدّ جيرانه الثلاثة، البرازيل والأرجنتين والأرغواي، عام 1864، وكانت نتائجها تدمير باراغواي بالكامل، وهلاك 90% من الذكور فيها، ومقتل مُبدع تلك الحرب في آخرها عام 1870، بينما نجد كيف أبدع نظيره السوري، بعد ذلك بنحو قرنٍ ونصف قرن، حين اعتنق مذهباً إبداعيّاً في التخريب قلّ نظيره، ومذهبه ذاك لم يتجلَّ فقط في تدمير سورية وتهجير أكثر من نصف سكانها، بل وبمنح تذاكر إقامة دائمة لأربعة احتلالات مباشرة، بكلّ ما تتضمّنه من أنظمة وصايةٍ وانتداب مُعلنةٍ، وأخرى خفيّة.
إذاً، تتعثر سورية ببشّار الأسد، فلا تنهض، يظلُّ حجر عثرتها الدائم، وتبقى تعاني معه من عذابات سقطتها الكبرى، تلك التي بدأت عام 2011، ولا تزال قائمةً حتّى الآن. وذلك سقوطٌ حقيقيّ وكليّ، أيّ ليس سقوطاً مجازيَّ الدلالة، بما يتضمّنه معنى السقوط من مرجعيات سياسية واقتصادية واجتماعية تُؤكّد حدوثه.
تتعثر سورية ببشّار الأسد، فلا تنهض، يظلُّ حجر عثرتها الدائم، وتبقى تعاني معه من عذابات سقطتها الكبرى
ثمّ إن لوبيز لم يُعمّر سوى ثماني سنوات في رئاسة باراغواي، بينما نجد أنّ بشار الأسد يترأسُ النظام السوري منذ ربع قرن، وهذه نقطة تفوّق جديدة تُحسب له، بالإضافة إلى الموقع الجيوسياسي لسورية، وهو موقع بالغ الأهمية أتاحَ لرأس النظام أن يعرّضه في سياق مزادٍ سياسيٍ دائمٍ، وفي أحيان كثيرة في سياق ابتزازٍ سياسي للدول الكبرى، ودول الإقليم المحيط، وهذا الذي لم يُوفّره موقع باراغواي الجيوسياسي للوبيز، المندفع وغريب الأطوار. كذلك يستطيع بشّار الأسد الاستناد إلى جدار من المراوغة المحسوبة، ويستطيع كذلك إتقان الاختباء داخل مساحاتٍ مكشوفةٍ من البراغماتيّة الخالصة، وهذا الذي لا نجده عند لوبيز لدى استعراض سيرته الذاتيّة. ولكن ليس من الصعب الإمساك برأس النظام السوري متنكّراً بقناعٍ إصلاحي مرّاتٍ عديدة، ربما آخرها حين ظهر في الاجتماع الموسّع للجنة المركزية لحزب البعث، الذي انعقد في قصر المؤتمرات على مشارف العاصمة دمشق مطلع الأسبوع الأول من شهر مايو/ أيار الحالي، وجرى انتخابه أميناً عاماً لحزب البعث، في وقتٍ يدّعي ضرورة التوجّه نحو إبعاد حزب البعث عن السلطة ومؤسّساتها، فما يريده بشّار الأسد من السلطة هو السلطة نفسها، كاملةً غير منقوصة كما ورثها عن أبيه، وله أن يدّعي خلاف ذلك، وللآخرين حرّية تصديقه أو تكذيبه، وكلّ ما عليهم فعلهُ هو إخضاعُ سلوكه السياسي المُشين في حقّ سورية إلى مقياس النتائج على الأرض.
وعلى الأرض، يرسل بشّار الأسد تعزيزاتٍ عسكرية وأمنية إلى السويداء جنوبي سورية، أرتالٌ عديدة منها شُوهدت وهي تتمركز في نقاط عسكرية مثل مطاري خلخلة والثعلة العسكريين، وأخرى تعزّزت بها بعض الأفرع الأمنية التابعة للنظام، وهي على أيّ حال تعزيزاتٌ لم تُرسل بغرض الاستجمام، أو لكي تسترقَ النظر إلى ساحة التظاهر وسط المدينة، بحيث ترتادُ وجودَها ذاك تأويلاتٌ مختلفة، بعضها تصرفهُ بنوكُ القلق العام على أنّه خطوةٌ تمهيدية يريدُ من ورائها نظامُ دمشق زرع الخوف داخل حراك السويداء، أو ربما استهدافه بصورةٍ غير مباشرة، كأن يفتعل اشتباكاً درزيّاً – درزيّاً، ثمّ يتدخّل بتلك التعزيزات لفضّه، وبالتالي إنهاء الحراك السياسي الحالي، ولديه لأجل ذلك عصاباتٌ محلّية معروفةٌ تخدمه، وجميع مكوناتها من الدروز، إلا أنّها تتبع في ولائها جهاز الأمن العسكري، الخاضع إلى النفوذ الإيراني، ويمكن لتلك العصابات أن تشتبك مع المتظاهرين، وبالتالي ستدخل في اقتتال حتميّ مع الفصائل المسلحة القريبة من الحراك، والداعمة له، وإن حدث ذلك، فستكون لمزاعم النظام بأنّه يريد إعادة الأمان إلى الجنوب عموماً، والسويداء خصوصاً، قيمةٌ من الناحية الإجرائية، لكنّ نتائج ذلك الصدام الأعمى قد يصعب احتواؤها، أو حتّى التكهن بمدى اتساع مآلاتها، وربما لن يجنِ من ورائها بشار الأسد سوى ما جناه لوبيز من وراء حربه الخرقاء على جيرانه.
ما يريده الأسد من السلطة هو السلطة نفسها، كاملةً غير منقوصة كما ورثها عن أبيه، وله أن يدّعي خلاف ذلك
غير أنّ النظام السوري يُصرُّ على أن يصرفَ الناس في جنوب البلاد رصيدَ تلك التعزيزات العسكرية من بنك الطمأنينة، حتّى وإن كان بنك طمأنينته مفلساً للغاية، يريدهم أن يقتنعوا بأنّ تلك التعزيزات جاءت بغرض إعادة الأمن والاستقرار الاجتماعي إلى السويداء بصورة خاصة، ومكافحة الجريمة والاتجار بالمُخدّرات، وسوى ذلك من استرسال إنشائي لا يحمل أيَّ دلالات تُجيز تصديقه، هذا لأن النظام السياسيّ السوريّ هو نظام عصابة حاكمة، والعصابة لا يمكن أن تحارب نفسها بطبيعة الحال، أو أن تحارب مكوناتها الأقلّ سطوةً.
لكن، ماذا لو أنّ بشار الأسد قرّر فجأةً أن يسمح للوبيز بالتفوّق عليه في كلّ جولات الحماقة السياسية، وأن تكون هذه التعزيزات الممنوحة للسويداء (لم تطلبها من نظامه على أيّ حال) تهدف إلى تأمين حماية الحدود مع الأردن، وكبح نموّ متوالية تهريب المُخدّرات إلى هناك، فإن صحَّ هذا، فإنّ رئيس النظام السوري يكون قد عاد إلى حفلة زفافه العربية "خطوة مقابل خطوة"، التي توقّف صخبها منذ مدّة، أيّ عاد إلى حضن المبادرة العربية للتطبيع معه، الذي غادره من دون استئذان، ربّما غادره حين شعر بآلامٍ مبرحة نتيجة المكوث فيه، أو ربّما استشعر عدم دفء ذاك الحضن على نحوٍ كافٍ، يليق به، وهو الباحثُ دوماً عن دفءٍ لائقٍ به كما نعلم (!)