عن انعكاسات عودة ترامب في شرق آسيا
بدا لي، في زيارتي إلى الصين أيّاماً قبل الانتخابات الأميركية، أن الباحثين والكتّاب الصينيين متأكّدون من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ربّما لم يكن ذلك تحليلاً بقدر ما كان تمنّيات، لأن أحداً لم يتوقّع هذا التفوّق الصريح الذي حقّقه الرئيس السابق على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس في نتائج الانتخابات، وهذا يعني أن عودة ترامب تبدو مفضّلةً للصين على تولّي نائبة جو بايدن قيادة الولايات المتحدة.
الأمر مفهوم، فإدارة بايدن هي التي ابتكرت استراتيجية "الردع المتكامل" تجاه الصين منذ مطلع عام 2021، وهي التي أعادت صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة لتركّز في جمع الحلفاء ضدّ الصين، ثمّ هي التي أذكت ملفّاتٍ كانت باردةً أكثرها أهميةً قضية تايوان، وأبرمت اتفاقيةً عسكريةً مع كوريا الجنوبية واليابان، وحشدت قواتها في غرب المحيط الهادئ، وراحت تنظّم مناورات عسكرية غير مسبوقة مع حلفائها، بما يشمل منطقة جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، بينما تزامن هذا الردع العسكري مع مساعي ردعٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ، خصوصاً في جانب التكنولوجيا التي سعت إدارة بايدن إلى تعطيل حصول الصين على متطلّبات تطوير الأجيال الجديدة منها.
تدرك الصين بالطبع أن ترامب لن يكون أقلَّ عدائيةً من سلفه، وهو لم يكن مسالماً ولا ودوداً تجاهها خلال فترة رئاسته السابقة (2017 - 2020)، لكنّها اليوم تدرك أيضاً الميزة التي يتمتّع بها في شؤون الصراع الدولي، وهي تغليبه المقاربات الاقتصادية على العسكرية في حساباته السياسية، وهو أمر لا ينبع من فراغ، إذ عاب ترامب (في أحد تصريحاته الانتخابية قبل أسابيع) على إدارة بايدن إنفاقها مليارات الدولارات على المناورات العسكرية في شرق آسيا. هذا الأمر لو صحّ كما تتصوّره الصين، يفتح الباب على مسألتَين. الأولى إمكانية الوصول إلى حلول وسط في الصراع الدولي المحتدم بشدّة بين واشنطن وبكين عبر تقديم الصين تنازلاتٍ ما في الجوانب الاقتصادية، والثانية انخفاض احتمالات الاحتكاك العسكري بين الدولتَين الكبيرتَين وحلّ الملفّات الشائكة ذات البعد العسكري، وفي رأسها مسألة تايوان، التي ظلّت إدارة بايدن تصرّ على أن الصين توشك أن تبتلعها بالقوّة العسكرية. الحقيقة أن بكين تعتقد أن الحزب الحاكم في تايوان، الذي تصنّفه انفصالياً، فقد دعماً مهمّاً بغياب الديمقراطيين من البيت الأبيض.
لكن الصين ليست وحدها في هذا التصوّر لعودة ترامب، والتخلّص من ضغوط إدارة بايدن. كوريا الشمالية هي الأخرى تبدو أكثر ارتياحاً لفوز الرجل الذي كان أوّل رئيس أميركي يدخل أراضيها، وذلك في 2019، ليعقد لقاءه الثالث مع رئيسها المعزول دولياً. خلال الحملة الانتخابية، ردّد ترامب أن كيم جونغ أون "يفتقده"، إذ ثمّة ما يجب إكماله في الحوار بينهما. صحيح أنه حوار لم يُنجِز نتائجَ عمليةً، لكنّه كان قائماً على أيّ حال بدلاً من التهديد العسكري الذي دفع بيونغ يانغ إلى أحضان موسكو بشكل غير مسبوق، خلال فترة حكم بايدن.
عاب ترامب على إدارة بايدن إنفاقها مليارات الدولارات على المناورات العسكرية بشرق آسيا، ما يفتح الباب على إمكانية الوصول إلى حلول وسط في الصراع بين واشنطن وبكين
استقبلت كوريا الشمالية احتمالات عودة ترامب، قبل أيّام، بإطلاق صاروخ باليستي بعيد المدى يمكن أن يصل أراضي الولايات المتحدة، ويتمتّع بالقدرة على حمل رؤوس نووية إليها، لكنّ الأمر لا يمكن أن يُفهم تهديداً وحسب، بل باعتباره يعكس استعداداً للتفاوض من موقع القوّة. ثمّة، إذا، ما يؤشّر إلى توقّع كوريا الشمالية تغييراتٍ مقبلةً في سلوك الولايات المتحدة في شرق آسيا، بعد أربع سنوات من تعزيز واشنطن قوّة جارتها الكورية الجنوبية. والتغييرات بالطبع ستغلّب المقاربات الاقتصادية على العسكرية، ما يعني أن حدّة السلوك العسكري لكلّ من واشنطن وسيول في محيط كوريا الشمالية قد تتغيّر، ويجد كيم وترامب ما يتفاوضان عليه عوضاً عن سباق التسلّح.
لو صدقت هذه التوقّعات من خصوم الولايات المتحدة في شرق آسيا، فإن أكبر الخاسرين سيكونون أولئك الحلفاء المتحمّسين للصراع والتهديد بالقوّة، خصوصاً الرئيس الحاكم في كوريا الجنوبية، يون سوك يول، لأن تحالفه مع واشنطن سيحتاج إعادة صياغة على قاعدة خفض التكاليف، والمشاركة في النفقات، وإيجاد مقارباتٍ جديدةٍ للصراع مع كوريا الشمالية والصين، اللذَين هما أصلاً على غير وفاق تامّ في الشؤون العسكرية والسياسية، حتى إن الصين دانت إطلاق كوريا الشمالية صاروخها الأخير، قاصدةً القول إنها بريئة من التصعيد، وليست في سلّة واحدة مع بيونغ يانغ.
المحصّلة أن العالم مقبلٌ على تغييرات استراتيجية في عهدة ترامب الثانية، فالمؤكّد أن الرئيس الجديد/ القديم سيجبر حلفاءه وأعداءه (على السواء) على الدخول معه في مساومات اقتصادية تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة عوضاً عن دفع العالم إلى الحافّة. وما يعزّز احتمالات استبدال آليات الردع السابقة التي استعملها بايدن، أن بكين غير مصرّة على قلب النظام العالمي أحادي القطبية الذي تتزعّمه الولايات المتحدة. هذا يعني أنها تقبل تقديم التنازلات والدخول في تلك المساومات، لأنها (هي الأخرى) تُغلِّب المقاربات الاقتصادية على العسكرية، ولا تخطّط لافتعال المشكلات التي تُفسد خططها الاقتصادية الاستراتيجية، التي تمتدّ حتى منتصف القرن، بما في ذلك أنها بالتأكيد لن ترغب بغزو تايوان، طالما حافظت الولايات المتحدة على التفاهمات القديمة بشأن الجزيرة التي أُبرِمت منذ سبعينيّات القرن الماضي. المسرح في شرق آسيا يبدو جاهزاً لتغييرات جذرية تنعكس في مجمل السياسة العالمية.