فرحة المتلصصة
وكأني أرى القصة التي سمعتها منذ طفولتي عشرات المرات، ورددتها أمي على مسامعنا في الأمسيات، ونحن نسمع صوت الرصاص حيناً، وصوت القصف حيناً لاحقاً، وكأنك حين تحكي حكاية مضت تشبه ما يحدُث اليوم وكل يوم ما هي إلا تأكيد على أن اليوم يشبه البارحة، فأمي لم تتوقف عن الرواية، حتى رحلت تاركة بيننا حكاية ابن عمها المتلصص على مقتل أبيه بدم بارد، ومن مسافة صفر.
وكأن التاريخ، كما قلت، يعيد نفسه بكل دمويته، فقبل أيام قليلة، شاهد العالم الصامت مكتوف الأيدي مشاهد مصوّرة لمقتل فتى فلسطيني بدم بارد على يد جندي درزي من المنضمين لجيش الاحتلال الإسرائيلي بولاء خانع، وترددت تلك العبارة التي تصف بألم قسوة ما يحدُث على هذه الأرض التي لم تفتأ ترتوي بدماء أبناء الشعب، ولا تستطيع أن تصرخ بكلمة "اكتفيت". ولذلك ليس غريباً وليست قصة من عالم الخيال ما دار من أحداث في الفيلم الأردني "فرحة"، والذي يروي حكاية فتاة متلصصة مع تفاصيل خاصة ودقيقة حدثت وتحدث مع النساء والفتيات في زمن الحروب وفي بلاد اللا أمان.
جاء الفيلم، الذي فاز بجوائز عالمية، وعُرض قبل أيام على منصّة نتفليكس ليرسّخ حقيقة مهمة، أنّ زمن التضليل الإعلامي والثقافي الممنهج والإخفاء القسري الصهيوني للرواية الفلسطينية قد انتهى، وإن مات من شهدوا بعض هذه الفصول المكرّرة من الروايات، فهناك الأبناء والأحفاد الذين يؤدّون الرسالة التي اؤتمنوا عليها، فكثيراً ما أروي لأولادي، بعد مرور 66 عاماً عليها، عن مجزرة لا تُنسى شهدتها إحدى مدن قطاع غزة، وعرفت بمجزرة خان يونس عام 1956، حيث أعدم الجنود الصهاينة الشباب والكهول بتصفيتهم جماعات، والبحث عنهم في كل مكان، وقتلهم من دون سبب، فحلّت فاجعة في المدينة لا تزال ذكراها حاضرة. وكان من بينهم عم أمي، اختبأ مع جاره في حظيرة للحيوانات، لكنّ الجنود المتنقلين كالبراغيث بين البيوت التي أخلى سكانها معظمها وفرّوا إلى الحقول الواقعة على شاطئ البحر وصلوا إليهما فقتلوهما رمياً بالرصاص، وكان الطفل الصغير محمد يختبئ خلف أكياس من البرسيم الجاف، ولم يحرّك ساكناً، واستطاع أن يكتم صرخاته وجزعه، وذلك كما يقولون بسبب "حلاوة الروح".
ظلت تلك الحكاية عن الصغير الناجي، والشاهد على وحشية العدو، تتردّد على المسامع، وتطوّعت العجائز في طقس مهم لهذا الصغير الذي أضحى يتيماً مع أخٍ وأخت، وهو "لقطة الخوفة"، لأنه، حسب اعتقاد الجميع، رأى بعينيه ما يشيب له الولدان. أما القتيل الثاني وهو الجار فقد ترك طفلة صغيرة سرعان ما بدأت تلعب مع الطفل تشاركه يُتمه، وتتشارك الأرملتان حزنهما، حتى إذا ما بلغا مبلغ الزواج تزوّجا، وحرصا على إنجاب ذرية كبيرة، ليعوّضا فقدهما إخوة كثراً، كان من الممكن أن يأتوا إلى الحياة لولا ما حلّ بوالديهما.
فرحة طفلة اسمها الحقيقي رضية، تلصصت على أحداث مجزرة حقيقية لم ينسج أحداثها صنّاع الفيلم، فهذا التلصص هو الذي أنجب الذاكرة المتوارثة التي تحاول الآلة الإعلامية اليمينية طمسها، مثلما حدث مع المخرج الإسرائيلي، إلون شفارتز، الذي وثّق مجزرة مماثلة هي مجزرة اللطرون قرب القدس عام 1967 في فيلم وثائقي.
يمكنك في فيلم "فرحة" أن تشاهد ما لم يقله الإعلام المنقول بواسطة الصحافيين الذكور مثلاً، وتراه الإناث العاملات في مجال الإعلام ويحاولن تشذيبه ونقله، مثل أن ينقلن قسوة الحياة على النساء في المدارس التابعة لوكالة الغوث (أونروا)، والتي يلجأ إليها الفارّون من القصف على حدود غزة، وحيث تهمس النساء والفتيات بوجع وخجل للصحافيات والمصوّرات عن حاجتهن لوسائل الحماية التي لا تستغني عنها النساء في موعد محدّد كل شهر. وهناك قصص عن مخاض مهلك أو إجهاض طارئ أو طمث يطأ فتاة لأول مرة، وهي تختبئ في "علية البيت".