فرنسا... ماذا بعد الانتخابات؟
أخفق اليمين المُتطرّف في فرنسا في تصدّر نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المُبكّرة، التي أُجريت الأحد الماضي (7/7/2024)، بعد أن نجح تحالفُ اليسار، المنضوي تحت الجبهة الشعبية الجديدة، في الفوز بها، ليقلبَ بذلك الطاولة على الجميع في مفاجأة انتخابية لم تكن مُتوقّعة. وإذا كان ذلك قد طمأن الطبقة السياسية الفرنسية، فإنّه، في الوقت نفسه، كرّس حالة الانحباس المؤسّسي، التي باتت عليها الجمهورية الخامسة في أكثر من صعيد.
تصدّرَ تحالف اليسار النتائج بـ182 مقعداً، متبوعاً بتحالف الوسط، الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون، بـ163 مقعداً، ثمّ حزب التجمّع الوطني، اليميني المُتطرّف بـ143 مقعداً. ولا تملك أيٌّ من هذه الكتل الثلاث الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية بما يسمح لها بتشكيل الحكومة الجديدة. وهو ما يطرح احتمال تشكُّل تحالف واسع من أحزابٍ تتباين في خياراتها الفكرية والأيديولوجية والسياسية. بيد أنّ هذا الاحتمال يبقى مُستبعداً في ظلّ التقاليد المعمول بها في معظم الأنظمة البرلمانية. وذلك يُقلّص أكثر هامشَ الحركة أمام الرئيس ماكرون، الذي كان يتطلّع إلى خريطة برلمانية تسمح له بفرز جديد للسياسة الفرنسية، وبالتالي، التحكّم في بوصلتها خلال الفترة المُقبلة. صحيحٌ أنّ خيار اليمين المُتطرّف، بالنسبة له، أصبح مُستبعَداً، على الأقلّ في المنظور القريب، إلّا أنّ خيار اليسار المُتطرّف لا يمكن أن يكون البديلَ بالنسبة للمشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي يُفترض أنّه (ماكرون) يعمل على تنزيل حلقاته الليبرالية بشكل مُتدّرج، رغم ما يلقاه ذلك من معارضة فئات اجتماعية واسعة. هذا إضافة إلى أنّ "الجبهة الشعبية"، هي في النهاية خليط غير متجانس من تنظيمات اليسار الديمقراطي والاشتراكي والشيوعي والفوضوي والخضر، جمعها تحالفٌ تكتيكيٌّ ومرحليٌّ، من دون أن يكون هناك مشروع مجتمعي (استراتيجي) تلتفُّ حوله في مواجهة تحالف الرئيس ماكرون و"التجمّع الوطني''.
هذا التصدّع غير المعلن داخل تحالف اليسار قد يستثمره ماكرون من خلال البحث عن شريك يساري مُعتدل، يستطيع قيادة حكومة أقليّة من دون أن تتمتّع بأغلبية مريحة داخل الجمعية الوطنية. لكنّ تحقُّق هذا السيناريو يصطدم بغياب شخصية يسارية تستطيع قيادة تجربة ''تعايش'' جديدة في السياسة الفرنسية. هناك سيناريو آخر، يتمثّل في حكومة تكنوقراطية، مع ما يعنيه ذلك من فكّ الارتباط مع الجمعية الوطنية بإرثها المعلوم كلّه في تغذية السياسة الفرنسية والحفاظ على توازنها.
تبدو خيارات الرئيس ماكرون محدودةً أمام هذا المأزق. فمن الناحية الدستورية لا يمكنه الدعوة إلى انتخابات تشريعية أخرى قبل انصرام سنة، في وقت تبدو الدولة الفرنسية بحاجة لإصلاح مؤسّسي عميق. من هنا، ستكون الأيّام المُقبلة حاسمةً في صعيد مشاورات قادة الكتل الثلاث المتنافسة، في أفق البحث عن مخرج يجنّب فرنسا شبح عدم الاستقرار السياسي، بعد أن أضحت، حسب كثيرين، ''غير قابلة للحكم''.
يبدو الانتقال من نظام شبه رئاسي، يتقاسم فيه رئيس الجمهورية والوزير الأول (وليس رئيس الوزراء) تسيير شؤون الدولة، إلى نظامٍ برلمانيٍّ تستعيد فيه الجمعية الوطنية ما كانت تتمتّع به من سلطات واسعة خلال الجمهوريتين الثالثة (1870 - 1940) والرابعة (1946 - 1958)، حلّاً يرى بعضٌ أنّه بات ضرورياً، بعد أن استنفد النظام شبه الرئاسي الحالي صلاحيته المؤسّسية والسياسية، خصوصاً في ظلّ افتقاد الرئيس الحالي الكاريزما التي كان يتمتّع بها أسلافه المحسوبون على اليمين واليسار على حدّ سواء.
إذا كانت الطبقة السياسية الفرنسية قد نجحت، هذه المرّة، في قطع الطريق على اليمين المُتطرّف، كي لا يصل إلى السلطة، فقد لا يكون بوسعها القيامُ بذلك في الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة، بعد أن أصبح رقماً صعباً في معادلة الصراع الاجتماعي والسياسي في فرنسا، والدليل على ذلك فوزه بأكثر من 10 ملايين صوت، لم ينجح في ترجمتها إلى مقاعد داخل الجمعية الوطنية بسبب طبيعة التشريع الانتخابي المعمول به.