فضيحة في غزّة
لم يسبق، في التاريخ الحديث، أن انفضح المجتمع الدولي وظهرت حقيقته كما يحدث في هذه الأيام، إثر عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حربٍ مجنونةٍ تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، تستهدف فيها كل مفاصل الحياة في غزّة، بما فيها المدنيون والأحياء والمجمّعات السكنية والمستشفيات والمدارس والأسواق ومراكز الإيواء. يترافق ذلك مع فرض حصار شديد على القطاع، تم فيه فصل الكهرباء وشبكة الإنترنت والمياه والدواء والغذاء مع قصف كل المعابر التي يمكن أن تكون منفذا لإيصال المساعدات إلى المحاصَرين تحت النار، ومع تهديد صريح إلى الدول التي تحاول إيصال المساعدات إلى غزّة. باختصار، تنفذ إسرائيل اليوم واحدة من أكبر حروب الإبادة ضد الفلسطينيين برعاية المجتمع الدولي ودعمه وحمايته. ولا تنفع اليوم محاولة إلقاء اللوم علي حركة حماس وتحميلها مسؤولية ما يحدُث، لكن ما يحصل إبادة فلسطينيي غزّة وتفريغ القطاع ومنحه للمستوطنين ومحاولة تهجير من يتبقى من سكانه علي قيد الحياة أو توطينهم في سيناء المصرية (هناك دعوات إسرائيلية إلى الغزّيين للتوجه نحو مصر)، وهي فكرة ومخطّط قديم لدى إسرائيل.
واللافت في هذه الحرب كمّ المبالغات في الميديا العالمية، وعلى لسان زعماء في العالم، (تصريحات الرئيس الأميركي بايدن، التي حاول البيت الأبيض التراجع عنها) عن همجية الفلسطينيين ووحشيتهم واعتماد صور غير حقيقية لما يحصل (بعض الصور من إدلب التي تقصف بالتزامن مع حرب غزة من روسيا والنظام السوري). وذلك كله لتجييش الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين وتبرير الإجرام الإسرائيلي (بوصفه ردّ فعل طبيعياً)، وتحقيق أهداف، ليست فقط إسرائيلية، بل هي أيضا دولية، غالبا تتعلق بترتيب جديد للشرق الأوسط، ليس ما يحدث في سورية والإقليم بمنفصل عنه بحال من الأحوال.
اللافت أيضا إطلاق الأكاذيب من الغرب عما يحدث حقيقة على الأرض وتبنّي الرواية الإسرائيلية بالكامل، والتي يتّضح تلفيقها يوما بعد يوم على لسان الإسرائيليين أنفسهم. لكن المجتمع الدولي لا يريد رؤية ذلك، ويستمر بالدعم غير المشروط لإسرائيل، مانعا أي مظهر من التعاطف مع الفلسطينيين، إلى حدّ منع مظاهراتٍ ضد الحرب على غزّة واعتقال من يحملون العلم الفلسطيني، وفصل من يؤيدون الفلسطينيين علنا من وظائفهم (في كندا تم فصل طيار مصري الأصل، لأنه وضع علم فلسطين صورة شخصية على حسابه في فيسبوك). طبعا يبقى الأكثر سوريالية خبر فصل الممثلة الإباحية لبنانية الأصل ميا خليفة من مجلة بلاي بوي بسبب نشرها فظائع ارتكبها الجيش الإسرائيلي على حسابها على "تويتر". ما يطرح سؤالا مهما بشأن الحرّيات السياسية وحرية التعبير التي يفاخر بها الغرب، وحول ازدواجية المعايير التي لطالما كانت نقطة سوداء في عين المجتمع الدولي (الديمقراطي)؛ والتي تجعلنا، في نظر بعض دوله، لسنا أكثر من حيوانات بشرية (قالها أخيرا وزير الحرب الإسرائيلي)، نستحقّ الموت، أو على الأقل حياتنا أو موتنا لا تعنيان أي شيء للعالم المتحضّر.
المدهش أكثر أن هناك عربا كثيرين، منهم مثقفون، يتبنّون هذه النظرية، مثلما يتبنّون رواية إسرائيل عن حرب غزة الحالية. فهم يؤكّدون في حواراتهم وكتاباتهم على وسائل التواصل أن إسرائيل محقّة بما تفعله بغزّة حاليا، وأن مقاومي "حماس" وغزّة هم مجموعة من الهمج الذين يأسرون فتياتٍ إسرائيلياتٍ بقصد السبي والاغتصاب على الطريقة الداعشية، وأنهم هم المعتدون وهم يجرّون ويلات الحرب إلى المنطقة بأسرها، فعليهم وحدهم تحمّل النتائج.
يجير هؤلاء غزة والقضية الفلسطينية كلها لصالح "حماس"، وكأن قضية فلسطين والمقاومة فيها لم توجد قبل وجود "حماس"، وكأن إسرائيل ليست عدوّا قديما قتل وهجّر واحتل وحاصر وارتكب المجازر بحقّ الفلسطينيين والعرب؛ وكأنها، إسرائيل، ليست سببا مباشرا بكل ما عانته وتعانيه الشعوب العربية من استبدادٍ وقمع وفقر وجهل وانسداد الآفاق أمام أجيالها القادمة. أما أن يكون بعض هؤلاء من السوريين الذين هجّرهم ونفاهم وفتك بحياتهم نظام الأسد الذي لم يكن ليبقى، رغم كل ما ارتكبه من فظائع وجرائم، لولا دعم إسرائيل والمجتمع الدولي الداعم من دون شرط لإسرائيل، فتلك متلازمةٌ يجب البحث عن اسم جديد لها يتناسب مع حجم فضيحتهم.