فلسطين .. الدولة المنسيّة
عرضت قناة الجزيرة الإخبارية، الأحد الماضي، فيلما وثائقيا بعنوان ''فلسطين 1920''، من إخراج الفلسطيني أشرف المشهراوي. كشف وقائع على قدر كبير من الأهمية، تخص الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في فلسطين قبل مائة عام. وربما لا مبالغة في القول إنه أول عمل وثائقي استقصائي يعيد إلى الواجهة ما حاول الكيان الصهيوني جاهدا طمسه وإخفاء معالمه، ضمن عمله على اجتثاث الوجود الفلسطيني، وإثبات أن فلسطين كانت ''أرضا بلا شعب''، وبالتالي إضفاء الشرعية على اغتصابها ومصادرة تاريخها. ولذلك، أهمية هذا العمل في ذهابه بعيدا في تقصّي عناصر القوة التي كانت تمتلكها فلسطين لإقامة دولة وطنية، أسوة ببلدان أخرى في المنطقة.
ينسف الفيلم الرواية الصهيونية بشأن عدم أهلية الفلسطينيين لإقامة دولتهم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، من خلال ما قدّمه من وثائق وصور وشهادات تثبت مستوى التقدّم الذي وصل إليه المجتمع الفلسطيني. ومن ذلك تطورُ البنية التحتية، وتأسيسُ ''سكة حديد فلسطين'' التي افتتحت أولى محطاتها في القدس (1892)، وازدهارُ الصناعة، سيما في قطاعات الزيوت والصابون والقطن والنفط والتعدين والسيارات والتحف والمنحوتات الدينية وغيرها، وانتعاشُ حركة التجارة، خصوصا في القدس ويافا وحيفا وغزة، ما أسهم في ربط الاقتصاد الفلسطيني بالعالم آنذاك، وتشكلُ اقتصاد خدماتي، واجتذابُ رؤوس الأموال الأوروبية والعمالة العربية، واتساعُ حركة البناء والعمران. وقد كان لذلك أثره على النمو الاقتصادي والحراك الاجتماعي، فاتسعت رقعة التعليم، وظهرت نواة طبقة وسطى حضرية، وازدهرت الصحافة، وانتعشت الحركة الثقافية والأدبية والإعلامية والفنية والرياضية، هذا من دون إغفال الحيوية السياسية اللافتة التي شهدها المجتمع الفلسطيني، بالتوازي مع المؤامرة الاستعمارية الكبرى التي كانت تُحاك ضده في كواليس السياسة الدولية.
شكلت هذه الدينامية المجتمعية عائقا بنيويا أمام الحركة الصهيونية طوال العقدين الأولين من القرن الماضي، ما حدا بها إلى الانتقال إلى طور آخر مَثَّل الدعم الاستعماري (البريطاني تحديدا) عنوانه البارز. وقد ساعدها على ذلك ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من متغيرات، تجسّدت، بالأساس، في تفكّك الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم تركتها بين بريطانيا وفرنسا. ويمثل المؤتمر الذي عقده الحلفاء في سان ريمو بإيطاليا (إبريل/ نيسان 1920) نقطة فاصلة في مسار هذه الحركة، بالنظر إلى ما تمخض عنه من مخرجات، بالأخص في ما يتعلق بتفعيل وعد بلفور، وفتح أبواب الهجرة إلى فلسطين أمام اليهود. وقد أفضى ذلك إلى تشكل ميزان قوى جديد، ساعد بريطانيا على تقديم فلسطين على طبقٍ من ذهب إلى الصهاينة الذين وجدوا فيها كل المقومات لإنشاء كيانهم الغاصب، بحيث لم يتطلب الأمر منهم أكثر من إعلان دولتهم، بالتوازي مع عمليات القتل والتهجير والتشريد التي نفذوها بحق الشعب الفلسطيني.
ما قدمه فيلم ''فلسطين 1920'' لا يُعدُّ، فقط، نسفا للرواية الصهيونية، بل يعيد إلى الواجهة، أيضا، المسألة اليهودية، باعتبارها مشكلة غربيةً بالأساس، تطلب التخلص منها التضحية بشعب آخر كان يتلمس طريقه نحو تأسيس دولته الوطنية، بما توفر لديه من مؤهلات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لم تتوفر لكثير من شعوب المنطقة آنذاك. وقد انتبه قادة الحركة الصهيونية مبكرا إلى هذه المؤهلات، فحولوها، بدعم بريطاني، إلى عناصر قوة لتنفيذ مشروعهم الاستيطاني.
من ناحية أخرى، كان لافتا توظيف طاقم الفيلم المونتاج في تكثيف الدلالات الفنية والرمزية والسياسية الكامنة خلف المشاهد، عبْر توليفاتٍ بصريةٍ بديعة، مزجت بسلاسة بين صور قديمة لأمكنة ومواقع فلسطينية معينة، وصور حديثة لها (2020)، في استعادةٍ للذاكرة الفلسطينية، ولدورها في إعادة كتابة الفصول المنسية في التاريخ الوطني الفلسطيني الحديث والمعاصر.
ختاما، لا يخلو توقيت صدور الفيلم من دلالةٍ في ظل مسلسل التطبيع المتواتر بين الكيان الصهيوني وعدد من البلدان العربية، فالفيلم يعيد الاعتبار للرواية الفلسطينية التي تتعرّض لهجمة شرسة ممنهجة من التحالف الإسرائيلي العربي الجديد الذي يتطلع إلى إعادة كتابة هذا التاريخ وفق الرواية الصهيونية.