فندق في وسط البلد
تتسلل إلى أنفك رائحة وسط البلد، الرائحة التي افتقدتها حتى اعتدت على غيابها، غياب تلك الحميمية التي تدقّ قلبك، فهناك صلة وشعور بين قلبك والمكان، ربما لأنك تذكر كفّ أبيك الكبيرة الواسعة الحنونة الحامية التي كانت تقبض على كفّك الصغيرة، وتقودك وسط الزحام في وسط القاهرة، القاهرة التي بدت لك هذه الأيام، وبعد غياب أكثر من ستة عشر عاما، فارغة، على الأقل من كفّ أبيك.
الشوارع فقدت شيئاً كبيراً كان العلامة البارزة فيها، ولكن الذكريات كانت تقودك وترسم لك خطّ سيرك، تقودك ذكريات الحافلة المزدحمة والأجساد المتكدّسة ومحاولات دسّك في هذا الازدحام البشري لأول مرة على سبيل التجربة التي لم تتكرّر. ولكنك عشت لحظاتٍ في الحافلة، مثل تلك التي رأيتها في أفلامٍ مصرية كثيرة، وهي تصوّر معاناة المواطن المصري اليومية.
يدقّ قلبك في وسط البلد، وأنت تنزلق من الفندق الصغير الذي يحتلّ طابقا في عمارةٍ قديمة، يتجاوز عمرها المائة عام. تقرّر أن تتحرّك في المنطقة كي لا تتوه، فأنت مسافر "ترانزيت"، وتستعد لإقلاع طائرتك بعد ساعات. ولذلك لم يكن من الضروري أن تحمل هاتفا يحمل رقما محليا. ولذلك أيضاً أنت تسمع نصائح رواد الفندق الجالسين في البهو الضيق، وكذلك الشاب الأسمر اللطيف الذي تناول مفتاح غرفتك من يدك، ألا تبتعد.
مرّت حوالي ست عشرة سنة على زيارتي الأولى القاهرة، القاهرة التي هي محطّة مرور المسافرين من غزّة إلى أي مكان في العالم، وحيث يمرّون بميناء رفح البرّي، ثم يعبرون صحراء سيناء، ويمرّون بقناة السويس، ثم تصبح وجهتهم القاهرة، المدينة التي تشدّك بعهدٍ لا تعرف كنهه، ولكنه يظل يناديك متى ابتعدت، ويعيدك في كل مرّة، وكأنها أول مرّة. وهكذا وجدت نفسي في فندق صغير في وسط البلد كما يطلق عليه، معظم النزلاء كانوا قادمين مثلي من غزّة، فلم أستغرب أنني أسمع اللهجة الفلسطينية الغزاوية حولي، فيما كان العاملون في الفندق يتجاوبون معهم ما بين اللهجتين بطريقة محبّبة، تثبت لك أن صلة سرية تحرص كل الأجيال على امتدادها. وهكذا تجد نفسك مع عبق المدينة ومعالمها التاريخية التي شرحها لك بكل تفصيل والدك الراحل، والذي حين دسّك في حافلة مزدحمة كأنه كان يعدك لكي تصبح وحيدا في معترك الحياة.
لشارع 26 يوليو في القاهرة، ووسط البلد تحديدا، تاريخه، وقد كان يحمل اسم شارع بولاق، ثم أصبح اسمه شارع فؤاد الأول نسبة إلى ملك مصر، ثم سمّي شارع 26 يوليو، اليوم الذي رحل فيه آخر ملوك مصر بعد ثورة يوليو، الملك فاروق، الظالم والمظلوم كما يطلق عليه.
في وسط البلد، تتسلّل إلى أنفك رائحة ذكرياتك، ولكنك تكتشف تغير المعالم قليلا واتساع الشوارع، ولم يعد في وسعك أن ترى مناظر التسكّع المسائية للمارّة في الشارع مثلا، فقد أصبح الناس يقصدون المولات الحديثة التي يجدون فيها متعة النظر إلى المعروضات، والجلوس في المقاهي فيها بأسعارها العالية. ولعلك تفتقد المواطن الذي خبرته بالبذلة الكالحة المحبّبة والأكمام المستعارة، وأنت بذلك تدرك أن القاهرة تتغير، وتبقى باسمها القاهر الموجع لقلبك الذي يأبى أن يعود في كل مرّة يغادر، وكأنك تتمنّى أن يمتد بك العمر بين بعد ولقاء.
للقاهرة وفندقها في وسط البلد ذكرياتٌ جديدةٌ في قلبي التي غادرتُها آخر مرّة وأنا في أوائل الثلاثينات من عمري. وها أنا أعود إليها وأنا أطرق باب الخمسين، وأنا أحمل اسم "ماما"، حيث يناديني كل من يصطدم بي، ويطلب مني أن أُفسح له الطريق بأدب، وأنا أقطع الطريق نحو محل حلوى شهير أو بائع "كشري" أبعد منه قليلا، وذاع صيته في "السوشيال ميديا". وفي رحلة انتظار إقلاع طائرتي، كنت أحشو معدتي بطبق منه، وأحشو روحي وقلبي بذكرياتٍ ولقطاتٍ آنيةٍ لحبٍّ وصلةٍ لا يمكن أن تنقطع بين شعبين متجاورين من قارّتين مختلفتين.