فيلم أميركي وحلم عربي
هل سيقتنص مخرجٌ أميركي حسّاس تلك اللحظة التراجيدية التي أضرم خلالها جنديٌ من القوّات الجوّية الأميركية، هو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، النارَ في جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، عبر تسجيل مصوّر بثّه على الهواء مباشرة، معلناً: "لن أكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعية"؟ هل سيبدأ فيلم بهذه اللحظة المرعبة التي قادت شابّاً يعيش في الطرف الآخر من العالم ولا يمتّ إلى فلسطين أو إلى العالم العربي بأيّ صلة، لا من قريب ولا من بعيد، ليقرّر ذات صباح يومٍ عادي، "إينوف إز إينوف" (enough is enough)، فيقرّر ارتداء بزّته العسكرية كي يخرج جندياً لا مدنياً، يتجّه إلى كاراج بيته فيعبّئ قارورة مياه الشرب بالبنزين، لكي لا يلفت الأنظار إليه إن حمل غالوناً أو قربة كبيرة، وهذا معناه أنه لم يكن يُخاتل أو يُراوغ ليلفت الأنظار فيُسرع الآخرون إلى إنقاذه قبل أن يتمّم فعلته، بل معناه أنه كان ذاهباً إلى الموت يائساً فعلاً، بملء إرادته وعن سابق عمْد وتصميم، وقد راح يصرُخ والنيران تلتهم لحم جسده: "فلسطين حرّة".
آرون بوشنل، هذا هو اسمُه، راح إلى الموت من أجل قضية أخلاقية أرعبته حرفياً، أفقدته إيمانه وزلزلت كيانه ومبادئه وكلّ ما نشأ وشبّ عليه من قيم ومبادئ. الشعبُ الأميركي بسيط، يصدّق في أغلبيته ما يُقال له، الشعب وليس نخبه، ذاك الموزّع على ولايات بعيدة عن المركز وعن العالم وما يجري فيه. آرون ولا ريب من هؤلاء، من أولئك الذين يردّدون "غاد بليس أميركا" ويدمعون أمام العلم الأميركي والنشيد الوطني ويؤمنون بالربّ والخير. فكيف كان لعقله وقلبه النظيفيْن أن يكتشفا قسوة الحقيقة وعنفها، فيستمرّان بالعيش وكأنّ شيئاً لم يكن.
عبّأ آرون قنّينته، بحث في أدراج المطبخ عن ولاعة، ثم رسم إشارة الصليب طالباً من "جيزوس" (Jesus) أن يساعده على حمل صليبه. لم يفكّر في والديه، في أصدقائه، في حبيبة محتملة وحياة عادية مقبلة. لم يخطُر له أنه من المحظوظين غير الملعونين في هذه الأرض، أن بإمكانه أن يعترض بوسائل أخرى كما يفعل كثر، يتظاهر، ينزل إلى الشارع بيافطاتٍ معاديةٍ للحرب على غزّة، يكتب على منصّات التواصل الاجتماعي، يرفض الخدمة العسكرية، إلخ... آرون عرف أن هذا كلّه قد جُرّب ولم يؤدّ إلى نتيجة، وآرون الشاب الذي حشوا رأسه بأن النظام الأميركي الذي يهبّ لنجدة الضعيف والمعتدى عليه، اللاهث وراء تحقيق العدالة في العالم، المسالم والمؤمن بالحقوق والقضايا الإنسانية، أدرك أنّه يمكن أن تكون لذاك النظام ارتكابات ومواقف كهذه مما يجرى يومياً من مذابح في فلسطين.
آرون لم يحرق نفسه ليعترض كشخص يملك رأيا سياسيا، بل هو فعل لأنه أدرك أن خلف الأقنعة والخطب والمواقف المعلنة والمؤيدة لقتل الأطفال والمدنيين وسياسة منع المساعدات والتجويع والتهجير تكمن خديعة العصر، خديعة حضارة بأكملها مبنيّة على نصرة القوي وسحق الضعيف. فالعالم هذه المرّة يشاهد وهو على علم، ولأن التصريح بأننا "لم نكن نعلم" حين أبيد الهنود الحمر مثلاً، وكذا في كل الإبادات السابقة واللاحقة، لم يعد ينطبق على هذا العصر. الآن، نحن نعلم كل شيء ونصمت، وبصمتنا هذا نتواطأ ونترك الأشرار يعيثون الفساد ويستشرسون، قال آرون في نفسه، الشاب الأميركي الأبيض، ابن أكبر جيش في العالم ومواطن أقوى دولة، ومثلما فعل توما الأكويني، غرز أصابعه في الجُرح، وآمن بأنها إبادة، ولا بدّ من إتيان فعلٍ يوقظ الضمائر ويغسل الروح ويبرّئها مما لوّثها من إجرام وقسوة وأكاذيب...
وفي المقابل، على الطرف الآخر من العالم حيث تُرتكب الإبادة، ثمّة من تحرّك أخيراً فأنتج... نسخة جديدة من أوبريت "الحلم العربي"! فهنيئاً لكم ولنا بهذا "الإنجاز" الفنّي الذي لن يتكرّر قريباً والذي، لفرادته وأهميته، لن يجد له بسهولة مكاناً بين نفايات التاريخ!