في تحوّل روائي فرنسي إلى العنصرية الفاعلة
تتناول المقالة ظاهرة بدأت في الانتشار داخل منظومة المثقّفين الفرنسيين من إعلاميين وكتّاب رأي وروائيين، حيث انبرى كثيرون منهم إلى التّجذّر، أو بلغة السياسيين، الراديكالية، أكثر فأكثر، في العنصرية وكراهية الآخر إلى درجة التّحريض على القتل، التّهجير، أو نزع الجنسية، إلى خارج فرنسا لمواطنين يحملون الجنسية الفرنسية أو مهاجرين، ولكنّهم من ديانة أخرى، خصوصا المسلمين منهم، وبدرجة قريبة الأفارقة، كما سنرى من خلال نموذجين، بطل الأوّل منهما الرّوائي الفرنسي ميشال ويلبك، والآخر فرنسي جماعي ضدّ الممثل الفرنسي ذي الأصول السنغالية بعد مشاركته في عملية ترويج فيلم عن المجندّين بطريقة إجبارية في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى.
بداية، يجب تعريف المفهوم الذي جاء في عنوان المقالة "العنصرية الفاعلية"، فثمّة نوعان من العنصرية، أحدهما تلك التي نعيشها والمتمثلة في الراديكالية في إظهار رفض الآخر على المستوى الفكري، رفض رؤيته يمارس شعائره الدّينية أو يحتفل بأعياده، إضافة إلى رفض الاختلاط الثّقافي، أو ما بات يُعرف في الدّراسات ما بعد الكولونيالية، والسُّوسيولوجية، بتعدُّد الثّقافات (multiciluralism)، وجدلية الهوية، بصفة عامّة. ولكن من دون أن يكون لتلك العنصرية تجسيد لها في تكوين جماعات هويّاتية تنادي بتفوُّق العنصر الأبيض كما جرى في مسجدين في نيوزيلاندا أو في فرنسا، بمناسبة إنشاء أجنحة يمينية متطرفة تعرف بالهوياتيين (Identitaires)، وهو نفسه ما جرى، منذ القرن الماضي، في الولايات المتحدة، بتكوين العنصريين البيض في جنوب الولايات المتحدة لجماعة "Ku Klux Klan" التي كانت تقوم في حفلات بطقوس محدّدة لها لباس معين، في أماكن معيّنة تشعل فيها النّيران، وتصلب فيها السُّود من أصول أفريقية. حيث عندما تمرّ العنصرية إلى هذا المستوى تغدو عنصرية فاعلة، أي تُفعّل العداوة وتحوّلها من حالتها الضّامرة إلى حالة صراعية حيّة، من الوجدان إلى الفعل.
نقطة ثانية يجب الاطّلاع عليها لمعرفة العامل المحفّز على الانتقال من العنصرية اللّينة إلى العنصرية الفاعلة، حيث تضافر الإعلام، الراديكالية أو التطرف السياسي، معزّزا بالإعلام ونخبة مثقّفة من كتّاب وإعلاميين لصنع اللحظة الفارقة التي نقلت التّعبير عن كراهية الآخر المسلم من حالة الضُّمور إلى حالة الفعل، وخصوصا أن ذلك ترافق مع الصُّعود الأكيد للّيبرالية المتوحّشة التّي استطاعت التّلوُّن بلبوس التّيارات السّياسية المختلفة، يمين ويسار متعاقب على الحكم، وصولا إلى صعود عالم المال، ممثّلا في ايمانويل ماكرون، إلى الإليزيه لعهدتين. وهي عوامل، كما نرى، أدّت بالعنصرية إلى التبرير الفعلي عن حافة الهاوية الاقتصادية التّي تضع الفرنسيين أمام الوحش الذي يجب تحميله كلّ الآلام والمآسي، وإن سجّلت فرنسا استفاقة مؤقّتة، عندما انطلق صراخ السُّترات الصّفراء التي فهم قياديوها ما يُحاك لفرنسا ولأوروبا على المستوى الاقتصادي، والذّي يتّخذ، تبريرا له، كراهية الآخر والعنصرية الفاعلة متنفّسا من الإحباط، كما يقول علماء النفس، في هذا الشّأن.
العنصرية الفاعلة، هو الحديث، بل التفكير الذي أصبح يشغل بال الرّوائي ميشال ويلبك، في فرنسا، المعروف بكراهية المسلمين وبكتاباته السّوداوية بشأنهم في رواياته
هذا المستوى، العنصرية الفاعلة، هو الحديث، بل التفكير الذي أصبح يشغل بال الرّوائي ميشال ويلبك، في فرنسا، المعروف بكراهية المسلمين وبكتاباته السّوداوية بشأنهم في رواياته، بشكل خاصّ، لكن من دون أن يتجاوز ذلك حدود الإبراز لتلك الكراهية بطبيعتها اللّينة، قبل أن يمرّ، في الآونة الأخيرة، منذ حوالي شهرين، في أثناء حديثٍ له في مجلّة يمينية، إلى التّعبير عن العنصرية الفاعلة، بدعوته إلى نبذ تلك الكراهية، لأنّها لا تُعبّر عن مكنون النّفس الفرنسيّة عند السُّكان الأصليين، أي البيض، بل الأمر الذي يجب أن يبرز في التّعامل مع المسلمين هو أحد ثلاثة خيارات، إمّا تجريدهم من الجنسية، تهجيرهم أو معاداتهم فعليا، لأنّهم لا يتواءمون مع الجهورية ولا مع قوانينها، كما أنّهم ليسوا أهلا للتّعامل الذي يليق بمن له ثقافة يمكن التّعايش معها، في بلد أوروبي ومسيحي.
سارعت بعض المجلاّت والقنوات الإعلامية الفرنسية، المتبنّية الخطاب اليميني المتطرّف، للدّفاع عن وجهة نظر ويلبك، ووصفته بأنّه يدخل في إطار حرّية التّعبير، بل شبّه بعضهم ويلبك بالكاتب الرُّوسي الفائز بجائزة نوبل للأداب، سولجنيتسين، حيث إنّ ويلبك يعارض الوجود الإسلامي في فرنسا، تماما كما كان الكاتب الرُّوسي يعارض الشُّيوعية وبعض ممارسات ستالين الاستبدادية، بالرّغم من أنّ النّاظر في طبيعة عملي سولجنيتسين وويلبك يمكنه التّفريق بين المعارض وكاره الأجانب الممارس للعنصرية الفاعلة. وسارعت وجوه بارزة من تيّارات معروفة بكراهيّة الأجانب إلى تصويب ما تحدّث عنه ويلبك، بل إلى مناصرته. كما شاهدنا نقاشات إعلامية تعرّضت بالنقد الايجابي لمقولاته، بل جاءت بحجج دعّمت بها توجُّهات الرّوائي، ما يدلّ على تعميم ذلك التوجُّه لدى النُّخبة الإعلامية والمثقّفة في فرنسا، في الأعوام الأخيرة، فأصبح من السّهل نشره عبر الإعلام والكتب، والحديث عنه في الصّحافة، بل والإفصاح عنه، بصفة علانية، دونما إمكانية لرادع ما أخلاقي أو قانوني، إذ ليس ثمّة ما يمنع أيّاً كان من إبراز كراهيّته الأجانب والمرور إلى مرتبة العنصرية الفاعلة، أي العداوة الفعلية للأجانب، والمسلمين منهم بصفة خاصّة، في بلد يعيش حيرة جدلية بين اقتصاد ومكانة يتراجعان، وتبرير/ إلهاء يجب أن يصبح قاعدة للعمل السّياسي، والتفكير بل البناء الفلسفي والأيديولوجي لمنظومة مهترئة، حقّا.
ثمّة من ترتفع أصواتُهم في فرنسا، من أفراد ينتمون إلى جماعات متطرّفة، لحمل السّلاح ضدّ الأجانب
قد يكون من المفيد العودة إلى حالاتٍ مشابهة لويلبك، بدأت إعلامية، ثمّ تحوّلت إلى المنابر السّياسية، لإبراز ذلك التحوّل، حيث كان للمرشّح الرئاسي السابق إريك زيمور، مثلا، تجربة في المرور إلى العنصرية الفاعلة، من خلال حلقات تلفزيونية كان هو بطلها، مدة عامين، قبل أن تقترح عليه دوائر محددة من عالم المال الترشّح باسم اليمين المتطرّف مع برنامج انتخابي رئاسي، محوريته كراهية المسلمين وبناء أيديولوجي/ فلسفي/ سياسي، وجد مرجعيته في ممارسات عنصرية برّرت لتغيير حتّى تاريخ فرنسا الرسمي، على غرار تبرئة زيمور الماريشال بيتان من دم اليهود الذين جرى إرسالهم إلى المحرقة في الحرب العالمية الثّانية.
بالنتيجة، تكون مرجعية ويلبك ذاتها مرجعية إريك زيمور، بل تتجاوزها، بمسافة شاسعة، كون ويلبك روائي له صيت، بل هناك من يتحدّث عن احتمال ترشيحه لجائزة نوبل، وخصوصا مع تحوُّلات سياسية نراها بادية على المشهد الثقافي، السياسي والإعلامي في أوروبا وفي العالم الغربي، بصفة عامّة، مع تصدير خطاب "الحديقة" و"الغابة"، حديقة الغرب، على الأصعدة كافة، الخيرة والمتحضرة، وغابة العالم الآخر، المتوحّش والواجبة معاداته، بكل الأدوات، سيما منها التي يتوفر عليها الغرب من أدوات لينة (الإعلام، السينما، الأدب)، في انتظار مرور آخرين، على غرار ويلبك، إلى العنصرية الفاعلة، باعتبارها مقدمة ذلك العدوان المبرّر، وفق بعضهم، بسبب الإرهاب الإسلاموي والوحشية القصوى التي أظهرتها الغابة، أو من يمثلها، وفي مقدمتهم المسلمون، طبعا.
هي مجرّد إشارة، إذن، إلى هذا التّحوُّل العجيب في فرنسا، ومن روائي، لأنّ ما سيأتي من زمن قد يحمل إلينا ما هو أبشع، لأنّ ثمّة من ترتفع أصواتُهم، في فرنسا، من أفراد ينتمون إلى جماعات متطرّفة، لحمل السّلاح ضدّ الأجانب، وقد يجدون في خطاب ويلبك، وأمثاله من المثقّفين والإعلاميين الفرنسيين، ما يشكّل مرجعية لهم، كما كان لبعض الكتابات العنصرية دور المرجعية لمرتكب مجزرة نيوزيلندا ذات جمعة، بالقرب من مسجدين، هناك، أودت بحياة عشرات من المسلمين.