في تذكّر ترينا ميركادير
خصصت مجلة ''بين ضفتين (Dos Orillas) الإسبانية، التي تصدر من الجزيرة الخضراء، عددها الجديد للشاعرة والناشرة الإسبانية ترينا ميركادير Trina Mercader (1919- 1984)، أحد الوجوه البارزة في الحياة الثقافية في شمال المغرب إبّان فترة الحماية الإسبانية. واعتبرت مديرة المجلة، الشاعرة بالوما فِرنانديث غوما، الملف بمثابة محاولة لإعادة إحياء الإرث الثقافي الزاخر الذي خلفته ميركادير خلال إقامتها في المغرب في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته.
ولدت ترينا ميركادير في مدينة أليكانطي. توفي والدها وهي في الحادية عشرة من عمرها. ومع الانسداد الاجتماعي العام الذي واكب نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، انتقلت مع أمها للعيش في مدينة العرائش سنة 1940. ثم حصلت على وظيفةٍ في البلدية، ما جعلها تتعرّف أكثر على المغاربة وطبيعة حياتهم آنذاك. وبقدر ما قادتها انشغالاتها الأدبية والثقافية المبكرة إلى التعرف على الوسط الثقافي الإسباني في شمال المغرب، قادتها كذلك إلى التعرّف على الحياة الثقافية في المنطقة، من خلال عدد من الكتاب المغاربة، كمحمد الصباغ وأمينة الّلـوه وإدريس الديوري وغيرهم، كما لم يفتها ربط علاقات مع كتابٍ عرب، وبالأخص الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.
اهتمت ميركادير بسيرة الشاعر المعتمد بن عباد الذي خصّته بمرثية في بداياتها الأولى. وتكريما لذكراه أسّست مجلة ''المعتمد'' التي ضمت، إضافة إلى القسم الإسباني، قسما عربيا استضاف نصوصا وترجمات لكتاب مغاربة وعرب. وقد أرادت لها، منذ البداية، أن تكون عنوانا ثقافيا للتعايش بين الطور الأندلسي في حياة المعتمد وطورها المغربي على الرغم من مأساويته. ومنذ عددها الأول الذي صدر في العرائش (1947)، شكلت ''المعتمد'' جسرا ثقافيا لوصل ما انقطع بين إسبانيا وماضيها الثقافي العربي، فاستقبلت كتابات شعراء وكتاب ومترجمين ومستعربين. ومن ناحية أخرى، أسهمت المجلة في وضع اللبنات الأولى في صرح "الاسْتِسبان" المغربي والأدب المغربي المكتوب بالإسبانية، وتحديثِ الكتابة الأدبية في شمال المغرب، خصوصا بعد انتقال إدارتها إلى مدينة تطوان (1953)، إذ أولت اهتماما لافتا للترجمة بين اللغتين، وسعت إلى تجديد محتوياتها بما يعزّز مشروعها للتعايش الثقافي، فنشرت ترجماتٍ عربية لكبار الشعراء الإسبان، وبالأخص جيل 27، كما نشرت ترجمات إسبانية لشعراء عربٍ من المغرب والمشرق. وعلى سبيل المثال، استضافت كتابات خْوان رامون خيمينث وبيثينتي ألِكسندري، الحائزين على جائزة نوبل للآداب 1956 و1977، والمستعرب بيدرو مارتينيث مونتابيث، والمؤرّخ محمد بن عزوز والشاعر محمد الصباغ وغيرهم.
إضافة إلى ذلك، أسهمت المجلة في تصحيح انطباعاتٍ وتصوراتٍ كانت سائدة في المخيال الإسباني عن المغرب. وما كان لذلك أن يحدُث لولا الجهود التي بذلتها ميركادير لتكون المجلة جسرا للتواصل الثقافي بين البلدين، وبالتالي، عنوانا لخطاب مضادٍّ لخطاب التفوّق الثقافي الكولونيالي الذي عكسته بعض جوانب السياسة الثقافية الرسمية لسلطات الحماية الإسبانية. ولإغناء مشروعها وتطويره، أطلقت سلسلةَ ''اعتماد''، تخليدا لذكرى اعتماد الرُّمَيْكِية زوجة المعتمد بن عباد، والتي صدر ضمنها ديوانُها ''زمن الخلاص''، و''أنطولوجيا شعراء الرابطة القلمية'' لمونتابيث، والترجمةُ الإسبانية لديوان ''شجرة النار'' للشاعر المغربي محمد الصباغ. وتتويجا لنشاطها الأدبي والثقافي، أصدرت ميركادير مجلة كتامة (1953) في تطوان، والتي تحمّل مسؤولية إدارتها الكاتب الإسباني خاثينطو لوبيث غورخي. وقد استمر صدورها حتى 1959، وكانت آخر مجلة أدبية إسبانية تصدر في المغرب.
أصدرت ميركادير ثلاثة دواوين؛ قصائد صغيرة (1944) و''زمن الخلاص'' (1956) اللذين صدرا في تطوان، و''سوناتاتٌ زاهدة'' الذي صدر في برشلونة 1971. وبعد استقلال المغرب، انتقلت للعيش في مدينة غرناطة، حيث أمضت بقية حياتها حتى وفاتها في 1984، مخلفة إرثا ثقافيا كبيرا. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه بات جزءا من التاريخ الثقافي والاجتماعي لشمال المغرب خلال فترة الحماية الإسبانية.