في ذكرى الانتفاضة الفلسطينية
فجأة، يتغير كل شيء، بداخلك وحولك. ينتزعونك من صفك الدراسي ودرس لا تفهم شرحه، لكنك تحفظه من أجل امتحانٍ بغيضٍ في نهاية العام، ويسحبونك لكي تهتف باسمٍ رابضٍ في أعماقك سرّا هو اسم فلسطين. فجأة تكتشف أن ما تحدّث عنه الجد العجوز من الممكن أن يعود، فقد كان يتحدّث عن وطنٍ مسلوب وحلم بعيد، ويتنهد كثيرا. وأصبح حقيقةً كل ما يرويه عن ذكريات القرية البعيدة التي هجّر منها في عام النكبة، بما يشبه الأساطير التي تروى لكي ينام بعد سماعها الصغار. وفجأةً أيضا ترى الحلم الذي بناه الجيش الذي لا يقهر قد تقوّض. يكفي أن أحد أركانه قد تهدّم، وأصبح ذرّات من رمال، فها هو اليوم يغوص ويغرق ويتوه في وحل مخيم الثورة (مخيم جباليا) وأزقته.
تذكّر جيدا الجنود الراجلين المدجّجين بالسلاح، والذين كانوا يمرّون في أكثر الأزقة ضيقا، ويتلفتون يمنة ويسرة في توجس، ثم سرعان ما يتحوّل توجسهم إلى اطمئنان، فالصبية حولهم يتقافزون ويتضاحكون على مرآهم المضحك، فهم، على قصر قامتهم وضآلة بنيتهم، يحملون أضعاف وزنهم من السلاح والعتاد، ويمدّون أيديهم من جعبهم المعلقة خلف ظهورهم، فيُخرجون أدواتٍ ومتعلقاتٍ لا تتوقع أنه يمكن إخفاؤها في هذه الأماكن، ولأنهم يمضون وقتا طويلاً وهم يتدارسون التفافات الأزقّة، ويطابقون بينها وبين خرائط مرسومة بين أيديهم. ويعتقدون أنهم قد حفظوها، حتى جاء ذلك اليوم الذي تاهوا وغرقوا في أزقة المخيمات التي أجبروا أصحاب الأرض على أن يقيموا فيها مصنفين لاجئين.
اشتعلت الثورة في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام 1987. وأتذكّر ذلك اليوم جيدا، حين أعلن النفير العام في جميع أنحاء قطاع غزة، احتجاجاً على دهس شاحنة إسرائيلية، يقودها إسرائيلي، سيارة يركبها عمّال فلسطينيون متوقفة في محطة وقود في مدينة أسدود، ما أودى بحياة أربعة أشخاص وجرح آخرين، وقد اكتفت الإذاعة الإسرائيلية وقتها بإعلان الخبر من دون أن تركّز عليه، لأنه لم يكن أكثر من حادث يشبه حوادث عديدة مماثلة كان يقوم بها إسرائيليون بشكل متقطع، ويردّ عليها الفلسطينيون. ولكن هذه الحادثة كانت مختلفة، حيث أشيع وقتها أن هذا الحادث كان عملية انتقام من والد أحد الإسرائيليين الذي تم طعنه قبل يومين من ذلك التاريخ، بينما كان يتسوّق في غزّة، فاعتبر الفلسطينيون الحادث عملية قتل متعمّد. وفي اليوم التالي وخلال جنازة الضحايا، اندلعت احتجاجات عارمة، ألقت الحشود الغاضبة خلالها الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلي، فأطلق الجنود النار من دون أن يفرّق ذلك الحشود، بل زادها إصرارا على المواجهة بالحجارة وقنابل المولوتوف محلية الصنع. ما حدا بالجيش الإسرائيلي بطلب المدد العسكري، وهو ما شكّل أول شرارة للانتفاضة التي حرّكت المياه الراكدة، أو بالأصح التي كانت واجهة أماميةً، لأسبابٍ كثيرة أدّت إلى اندلاعها، أهمها أن الشعب الذي ذاق مرارة التهجير لم يتقبل فكرة الاحتلال ودوامه، وإصرار هذا الاحتلال على إذلاله، خصوصا فيما يخصّ لقمة عيشه، فمقتل هؤلاء العمال أشعل فتيل الانتفاضة فعلا، لأن اللاجئ الفلسطيني الذي كان يضطر للعمل بذلّ ومهانةٍ داخل أراضيه المحتلة تحمّل الكثير، أجورا متدنية وتفتيشا على الحاجز الذي يفصل قطاع غزة عن الأراضي المحتلة (إيرز)، وصرامة القوانين بحقّه مقارنة بالعامل الإسرائيلي. وأمام هذا الوضع المتردّي وإفقار اللاجئ الذي كان يعتقد أن العالم سوف يجد حلا قريبا لقضيته، ووقتها كان الشارع الفلسطيني في حالة غليان، وينتظر الشرارة لكي يشتعل.
وفعلا خرجنا إلى الشوارع نهتف باسم فلسطين تحت قيادة واحدة، وظلت الانتفاضة سنوات، وسقط الضحايا، وانتهت نهاية غير مُرضيةً ولا متوقعة، ولكنها حققت الإنجاز الأهم، الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، عبر الاعتراف الإسرائيلي الأميركي بسكان الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة جزءا من الشعب الفلسطيني، وأجهضت توقعات جندي إسرائيلي كان يعتقد أنه قد حفظ خريطة مخيم الثورة.