في ذكرى يوم الأرض
كان ذلك اليوم جريمةً تضاف إلى جرائم الاحتلال، ولكنه حوّل ذلك اليوم، من دون أن يدري، إلى يوم يخرج فيه كل فلسطيني في كل أنحاء الأرض، ليجدّد البيعة والعهد لها. وفي ذلك اليوم بالتحديد، تحايل الاحتلال الإسرائيلي لطمسه، وكاد يفلح في ذلك، لولا أن قاعدتهم التي ركنوا إليها بأن الكبار يموتون والصغار ينسون لم تكن صحيحةً، بل قلبت الطاولة فوق رؤوسهم، منذ اعتماد ذلك التاريخ يوما سنويا لإحياء يوم الأرض الفلسطيني، ومنذ اكتشفنا، نحن الصغار، الخدعة بفضل ذاكرة الكبار.
في ثمانينيات القرن الماضي، ومثل أي تلميذة صغيرة تفرح بالإجازة المدرسية، كنت أعدّد الإجازات المنتظرة خلال العام الدراسي. وقد مرّت إجازة نصف العام التي احتفلنا بها في أجواء باردة في بيوتنا مع الفيلم المعتاد لتلك الطقوس، "إجازة نصف السنة"، وبدأ انتظارنا إجازة الربيع. وفي ذاكرة كل منا تتردّد نغمات أغنية السندريلا الخالدة "الدنيا ربيع والجو بديع". وكنت أذكّر أمي بضرورة زيارة أصدقائنا في قرية قريبة على أطراف المدينة، حيث تتجلى فيها أجمل صور الربيع وحلله، ما بين أزهار اللوز والفل والياسمين، وكل الثمار التي أينعت فوق الأغصان، وأطلقت إشارة بدء قرب مخاض الحياة فيها.
وهنا جاءت ذاكرة الكبار لكي تنبهني إلى الحقيقة، واكتشفت، لاحقا ومع مرور الأيام، أن حلقات التزييف والتحايل التي ارتكبها الاحتلال بحق تاريخ نضال هذا الشعب لا تنقطع، فهي موصولة مثل خيوط تطريز ثوب فلسطيني أتقنت عجوز فلسطينية تطريزه وسرقه المغتصبون وقدّموه في عروض أزيائهم على أنه من تراثهم الذي لا يتجاوز عمره نصف عمر تلك العجوز.
أخبرنا أبي، وكان أن جمعني بإخوتي، أن إجازة الربيع ما هي إلا خدعة للاحتلال بقيادته في قطاع غزة، مستغلا اتباع المنهاج المصري في المدارس واحتفال الشعب المصري الشقيق المحاذي قطاع غزة إلى درجة الالتصاق بأعياد الربيع ذات الأصول الفرعونية. وبناء على ذلك، فقد تقرّر اعتماد إجازة الربيع في مدارس قطاع غزة، ابتداء من الأسبوع الأخير من شهر مارس/ آذار حتى أواخر الأسبوع الأول من شهر إبريل/ نيسان. وبالطبع، تمرّ ذكرى يوم الأرض في الثلاثين من مارس/ آذار والتلاميذ الذين يخشاهم المغتصب في بيوتهم، أو منطلقون في الحارات والأزقّة، أو يركضون بين الحقول خلف الفراشات والعصافير والطيور التي تتحرّر من أكمامها، بحثاً عن الأجواء الدافئة بعد برد ومطر طويليْن.
كانت وقتها القيادة العسكرية في قطاع غزّة تخشى تلاميذ غزّة، وأقرّت لهم إجازة مبتدعة، توحي برغبة الإدارة المدنية كما كان يطلق عليها وقتها، وهي إدارة أنشأتها حكومة إسرائيل في عام 1981، وتعتبر الجسم الممثل للحكم العسكري الإسرائيلي الذي أدار الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، باستمتاع التلاميذ مع عوائلهم بأجواء الربيع، ولكن أرباب العوائل كانوا يعرفون الهدف الخبيث الخفي، ونبّهوا إليه التلاميذ الصغار الذين حملوا الحجارة، وفجّروا انتفاضتها في العام 1987 لاحقا.
كما قلت، وكما يحدُث دائما، السمّ يدسّ في العسل، سواء مع تعامل الناس بعضهم بعضاً، أو على نطاق الحكومات ومستوى الدول ومصالحها وأطماعها، وهذا ما حدث مع ابتداع إجازة الربيع وإقرارها لطمس ذكرى لا تزال خالدة، وهي ذكرى يوم الأرض، وهي ذكرى هبّة شعبية على أثر مصادرة السلطات الصهيونية نحو 21 ألف دونم من أراضي عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها، لتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطّط تهويد الجليل، وقد خرج آلافٌ من أبناء الشعب الفلسطيني تحت قيادة رموز العمل الوطني الفلسطيني، ومنهم الشاعر والمناضل الراحل، توفيق زياد، رئيس بلدية الناصرة حينها، للاحتجاج، وإعلان الإضراب، ما أدّى إلى سقوط ستة شهداء وعشرات الجرحى واعتقال المئات.
ولا تزال ذكرى تلك الهبّة الشعبية قائمة، رغم دسّ السمّ بكل إتقان في العسل، مؤكدة في حشد سنوي يتجدّد أن القضية الوطنية للشعب الفلسطيني تتمحور أساساً على حقّه في أرضه السليبة.