في مثل هذه الأيام
من المحبّذ أن نطلق عليها مسمّى "مواطنة من غزة". ولو التقى بها أحد مراسلي وكالات الأنباء، وسألها ماذا كانت تفعل لحظة حدوث أول ضربةٍ جويةٍ على غزّة معلنة بدء العدوان الأول، لقالت إنها كانت تجري على غير هدى، لكي تجمع صغارها الأربعة من مدارسهم. ولكن لو سألت نفسها ماذا كانت تفعل وقتها لسخرت من نفسها، لأنها كانت تحاول أن ترتُق حياةً ممزّقة، ففي الصباح كان أطفالها يخبرونها أن اليوم يصادف ذكرى زواجها من أبيهم، ولذلك قرّرت أن تعد كعكة في مطبخها الصغير، في محاولةٍ لأن ترتق حياةً لا يربطها بشريكها سوى خيوط واهية، ولم يفلح الأطفال المهندمون والمتفوقون في أن تصبح أكثر متانةً وقرباً. وهكذا بدأ العدوان الأول مع فشلها كزوجة، وأعلن على أرض الواقع أن غزّة، ذلك الشريط الساحلي الغريب والعجيب والمناكف، لن يعود كما كان.
بعد ساعةٍ من عودة الصغار بمعجزة في ذلك اليوم، كنت أطالع الأخبار في رعب من جهاز التلفاز الصغير، ورأيت جثثا ممدّدة في أحد المقرّات الأمنية التي تعرّضت للقصف. وفيما كنت أحاول أن أشيح بوجهي، وأردّد عبارات الأسى، لمحت وجهاً أعرفه، وجهاً قضيت طفولتي مشاطرةً معه، وهو وجه ابن خالتي، والذي ولد معي في اليوم نفسه، وحيث قرّرت جدّتي لأمي أن تترك أمي التي وضعتني قبله بساعات، وتهرع لابنتها الثانية في المدينة البعيدة، لسبب وجيهٍ ومقنع، أن الابنة الثانية قد وضعت مولودا ذكرا بعد كومةٍ من البنات، فيما كنت الطفلة الثانية لأمي. وهكذا كبرنا وظل كل من حولنا يتندّر بهذه الحكاية، ولكن ذلك لم يمنع أن أصبح ربيبة جدّتي حتى مماتها.
لا يمكن لأحدٍ أن يتخيّل مشاعري وقتها، حين رأيت جسَده ممدّدا عبر شاشة التلفاز. وبقيت بعدها سنوات طويلة كلما التقيت بخالتي الثكلى، أتحاشى النظر بعينيها، لأنهما تكرّران السؤال ذاته: لو ظل هشام على قيد الحياة كم سيكون عمره اليوم؟
في ذكرى العدوان الأول على غزة في العام 2008، تتداعى هذه الذكريات الخاصة، وإن كانت ذكرى جمع الصغار وإعادتهم إلى البيت مثلما تفعل الدجاجة حين تجمع كتاكيتها، وتخفيهم تحت جناحيها، أو تدفعهم إلى القن الدافئ المعتم الضيق، لكي تحميهم. هي ذكرى عالقة لمعظم الأمهات الفلسطينيات، اللواتي ما زلن يذكرن تلك اللحظات القاسية، وحيث استخدمت إسرائيل الخديعة في الضربة الأولى المباغتة، ومنها تنفيذ العملية العسكرية يوم السبت؛ وهو يوم الراحة عند اليهود، بالإضافة إلى أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي حرص، في يوم الجمعة نفسه، على إبلاغ الصحافيين بأن الحكومة ستجتمع الأحد "لمناقشة" عمليةٍ مكثفةٍ محتملة على غزّة، وقد عزّز ذلك التكهنات بعدم الإقدام على أي تحرّك قبل الأحد، فجاءت الضربة مباغتة فعلا، وأوقعت إصابات وأضرارا بليغة في يومها الأول خصوصاً.
الحرب الأولى على غزّة في 2008 مثل محاولتي الخرقاء رتق حياتي الزوجية، وإنْ أكّدت على استحالة هزيمة إسرائيل المقاومة الفلسطينية، وعدم امتلاك وسيلة غير التدمير الهمجي فى مواجهتها، كما أكّدت على عدم تفكير إسرائيل في إعادة احتلال غزّة، بل تقليص الأخطار منها بعدة طرق، وأهمها القضاء على الأنفاق التي تربط بين مصر وغزّة. ولكنها وللأسف، وفى الجانب السلبي، إضافة إلى الخسائر التي لحقت بالأرواح والممتلكات، فقد كرّست هذه الحرب الانقسام الفلسطيني، وضمن معطياتٍ لاحقة عمّقته أكثر. وبعد أربعة أسابيع من هذا العدوان الغادر المشين، فقد انتهى بتظاهرةٍ دوليةٍ في شرم الشيخ لم تنجح لا في إعادة عملية التسوية الميتة سريرياً، ولا فى إنهاء الانقسام الفلسطيني بالطبع، ما أفسح المجال لأن يتكرّر هذا العدوان بمعدل عدوان كل أربع سنوات تقريبا، بنتائج مشابهة، ولو نسبيا، لنتائج العدوان الأول الذي ما زلنا نحصد نتائجه، والذي أخفت إسرائيل أهدافه، مثلما أخفيتُ عن أطفالي يومها خبر احتراق الكعكة في فرن مطبخنا الصغير.