في مستعمرة كافكا
في القصة التي كتبها التشيكي فرانز كافكا عام 1917، ونُشرت عام 1919، مع قصص أخرى، بعنوان "في مستعمرة العقاب" (35 صفحة)، لا بدّ أن يفاجأ القارئ بعصريّة الموضوع، كما بمقدرة هذا الكاتب الفذّ على استشراف ما ستبلغه الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات من عنتٍ ووحشيةٍ وقسوةٍ تحت شعاري الحفاظ على النظام وتحقيق العدالة. فالبطولة المطلقة هي لآلة تعذيب رهيبة اخترعها القائدُ الأسبق للمستعمرة وقد توفّى، مُورثا أفكارَه المجنونة وولعَه بالآلة لضابطه الأمين الذي يسعى جاهدًا ومستميتًا لإقناع "المسافر"، كما يسمّيه كافكا، أي المحقّق الذي أرسله القائدُ الجديد ليضع تقريره بشأن ضرورة التخلّص من آلة القتل هذه بأقصى سرعة.
تبدأ القصّة من دون مقدّمات، بوصفٍ مُسهبٍ وباردٍ لكيفيّة عمل الآلة المؤلفة من ثلاثة أجزاء: الجزء السفلي، وهو على شكل سرير يتمدّد عليه المحكومُ ليتمّ إيثاق أطرافه بقيود وملء فمه بقماشة تمنعه من الصراخ. والعلويّ الذي يحوي عجلاتٍ مسنّنة مسؤولة عن سير الآلة. وأخيرا الجزء الأوسط، وله شكل مسحاة مؤلفة من أمشاط بإبر، يحفر بند القانون الذي تمّت مخالفته على جلد المحكوم، سطحيا، ثم داخليا. العملية التي تتطلّب لإتمامها اثنتي عشرة ساعة، تنتهي بتمزيق جسد الضحية، ثم رفعه ورميه جثّة في حفرة.
يشرح الضابطُ المتحمّس هذا كلّه بالتفصيل المملّ، في محاولةٍ يائسةٍ منه لإقناع المسافر بفائدة هذه العقوبات التي كانت، للأسف، على حياة مخترعها، تستقطب المؤيّدين والمُشاهدين والحشود، والتي ما زال لها معجبوها السرّيون الذين يخافون التعبير عن حماستهم وتأييدهم، بسبب معرفتهم المسبقة بمشيئة القائد الجديد القضاء عليها. يشرح ويستفيض ويدافع ويبرّر، في حضور جندي مسكين يُفترض أن تُنفّذ به العقوبة، ولا يبدو عليه أنه مدركٌ أو مستوعبٌ هول ما سيمارس بحقه. وإذ يستغرب المسافر ردّ فعله المحايد، يستفسر من الضابط عن الذنب الذي ارتكبه، وإذا به يكتشف أن المحكوم عليه لا يعرف ما هو ذنبه، ولا عقوبته، وذلك في غياب أية محاكمة. وفي هذا الجهل بالذات، مقارنةً بفظاعة العقوبة، تكمن ربما عبقرية كافكا وكابوسية أسلوبه وكتابته.
وإذ يستوضح "المسافر" غير مصدّق، عن الجُرم الذي ارتكبه، يخبره الضابط بأن شكوى جاءت من النقيب الذي وُضع الجندي في خدمته، وقد رآه نائما أمام باب غرفته من دون أن يستيقظ في الوقت المحدّد ليؤدي لمخدومه تحيّته العسكرية، ما دفعه إلى إيقاظه بالسوط على وجهه. وبدل أن يقدّم الجندي المذنبُ اعتذاره طالبا السماح، أحاط بساقي النقيب وجعل يصرخ به: ارم سوطك وإلا التهمُتك! حدث هذا من ساعة فقط، وها هي الشكوى تجد طريقها إلى العقوبة المستحقّة دونما تلكؤ.
في النهاية، يقرّر المسافر وضع تقريره بمنع استخدام الآلة فورا ونهائيا، فيسارع الضابط يائسا للجلوس فيها كي يتمّ تشغيلها للمرة الأخيرة، إلا أن الآلة القديمة المتهاوية التي لم تجرِ صيانتُها منذ حين، تتخلّع فوقه، ممزّقة جسده، وموديةً به إلى الهلاك، على الرغم من محاولة المسافر إنقاذه بالسعي إلى سحبه من ساقية، من بين فكّيها..
في "المراقبة والعقاب – ولادة السجن"، أشار الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى أن العدالة الجزائية كانت توجّه إلى الجسم مستخدمةً التعذيب الجسدي عقابا، وعارضة الآلامَ التي كانت تُنزَل بالمحكومين جزءا من الأحكام الصادرة بحقهم. في قصة كافكا نحن أمام الفكرة نفسها، حيث إن كتابة بند القانون الذي تم خرقه على جسم المحكوم عليه هو ما سيجعل هذا الأخير يُدرك ذنبه، ومعناه أنه سيكتشف، من خلال عذاباته وآلامه، مضمونَ عقوبته. قصارى القول إن تفكيك آلة التعذيب في نهاية القصة يشير، بحسب ما رأى إليه كافكا، إلى نهاية عصر وابتداء آخر، أي إلى زوال مبدأ إقران العدالة بفكرة العقاب الجسديّ. لكن، للأسف، ما زال هذا المبدأ الوحشيّ ساريا، تطبقّه أنظمة قمعية، هنا وهناك.