في مسلّمات التحوّل السّياسي الفرنسي
تتحقّق أمام أعيننا إرادة التحوّل الدراماتيكي للسياسة من خلال الأنموذج الفرنسي، فتنبّأ الباحثون والسياسيون، على حد سواء، منذ فترة، باحتمال أن يكون المُنعرج النيوليبرالي للسياسات العامة والاقتصاد، بصفة عامة، هو الحافز لصعود اليمين المُتطرّف. ذلك أنّ التحالف بيّن، وكانت النيوليبرالية، واليمين المُتطرّف، في الانتظار منذ اعتلت مارغريت تاتشر، المرأة الحديدية، الحكم في بريطانيا، ومعها الجمهوري رونالد ريغان في أميركا. ثمّ توالت القصّة لتشهد الساحة السياسية، في أكثر من بلد، صعودَ اليمين المُتطرّف إلى الحكم أو اقترابه من تسيير بلدان أخرى، ومنها فرنسا، لأنّنا نتذّكر، كلُّنا، الدّور الثاني لرئاسيات 2002، حين كاد الأب الروحي لليمين المُتطرّف الفرنسي جان ماري لوبان، أن يصل إلى قصر الإليزيه، وما زال يصعد، في شخص ابنته التّي ورثته (وصلت في 2022 إلى الدور الثاني للرئاسيات، أيضاً)، إلى هذه الانتخابات التشريعية المُسبقة، التي يكاد جوردان باريدلا يحقّق فيها حلم الصعود بدخول قصر ماتنيون، مقرّ رئاسة الوزارة في فرنسا.
بداية، لماذا استخدام عبارة مُسلّمات في شأن سياسي يُعرف بداهةً بأنّه فنّ الممكن، أي القابل للتقلّبات والاحتمالات، لأنّه عالم التسويات بلا يقين على الدوام؟... تكون المُسلّمات، هنا، تعبيراً عن بروز توجّه كلّي نراه في أكثر من مكان، ويُغطّي فترة زمنية طويلة نوعاً ما، مع تأكّد من أنّه سيكون مُمكناً بوصوله إلى الريادة على غرار ما نشاهده في حالة اليمين المُتطرّف، أو الشعبوية كما يُحِبُّ كثر تسميته بها. ولكن، بصعود رديفه الاقتصادي ممثّلاً في النيوليبرالية أو الليبرالية المتوحّشة، التي حوّلت السّوق من مُجرّد مُتغيّر من متغيّرات كثيرة تحكم حياة الناس إلى مُتغيّر وحيد، انتقل من عالم المال إلى وجوب أن ينتقل من التواري والحكم في الخلفية ومن وراء الستار إلى الظهور علانية في شخص التوجّه اليميني المُتطرّف والشعبوية، بدءاً بالإعلام، ثمّ بتوليد وجوهٍ سياسيةٍ قد تكون فرنسا على موعد أن تجتمع فيها حاكمة، أي النيوليبرالية واليمين المُتطرّف، في قصري الإليزيه وماتنيون (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة معاً).
نحن في النتيجة أمام مُسلّماتٍ للتحوُّل السياسي الفرنسي، قد نوجزها في أربع نقاط أساسية. قد تكون أولاها إعلان موت السياسية في فرنسا، حيث لا يمين ولا يسار، بل ولا يمين مُتطرّفاً، بل مخاطرات بحجم المخاطرات المالية بإدراك رجال المال والأعمال، الذين صعّدوا رئيساً إلى الإليزيه في شخص إيمانويل ماكرون، الذي وصل إلى الحكم من دون أن تكون له سيرة ذاتية سياسية على غرار الرؤساء الفرنسيين السابقين، بل لا يملك أيَّ توجّه سياسي، إذ حكم مع الاشتراكي فرانسوا هولاند، الذي عيّنه وزيراً للاقتصاد، وصولاً إلى تحضيره من العدم، من دون أيديولوجيّة ومن دون عقيدة سياسية، للفوز برئاسة الجمهورية الفرنسية في ظرف وجيز، لتكون فرنسا على موعد إنجاز الوعد المُنتظَر لتحالف رجال المال والأعمال مع الدائرة القرارية الفرنسية. وتبرز في الأفق تلك التحفيزات الضريبية واللامساواة الاجتماعية في شكل تناقض كانت نتيجته ما شهدناه من ثورة السترات الصفراء، وهي ثورة لها ما بعدها في رسم المشهد السّياسي الفرنسي الحالي، أو في الأحرى التحوّل السياسي.
نحن أمام إعادة تشكُّل العالم في كلّ المجالات، وبخاصّة في مجال الاقتصاد والسياسة
تشير النقطة الثانية إلى انحسار كلّ التوجهات الأيديولوجية، رغم عدم خسارة اليسار تماماً للرهان السياسي باعتباره القوّة السياسية الثانية، الآن، من خلال قطب الجبهة الوطنية، وهو انحسار يُعبّر عن مواجهة قادمة بين قطبَين اجتماعيَّين، الأعلى منهما في الحكم ويملك دواليب الاقتصاد، والآخر مُهمَّش لن يكون أمامه ما يخسره. ولعلّ ما شاهدناه في ثورة السترات الصفراء ملمح صغير من ملامح المواجهة القادمة تلك، تتوارى فيها القيم، ولن يكون فيها بروز إلّا للمتغير المعيشي، ذلك أنّ النيوليبرالية تريد أن يعيش الناس في نموذج "أوبر"، ذلك الاختراع في عالم التنقّل بسيارات الأجرة، الذي يكون فيه الإنسان قيمة مُؤقّتة وبسعر زهيد، وهي ظاهرة بدأت بجذب الاهتمام في الدراسات الاجتماعية، وحملت مُسمَّى"Uberization of society"، بمعنى أنّ المجتمع يصبح بقيم مُؤقّتة في كلّ المجالات، وليس في مجال الاقتصاد فقط.
بالنّسبة إلى المسلّمة الثّالثة، نحن أمام إعادة تشكُّل العالم في كلّ المجالات، وبخاصّة في مجال الاقتصاد والسياسة، إذ برز منذ فترة في نظريات الدولة في المجال الأكاديمي ما بات يُعرَف بالمُنعرَج النيوليبرالي للسياسات العامّة، بمعنى أنّ السياسات العامّة لم تُصبح في محورية الإنسان في كلّ مراحلها، من التخطيط إلى الاستشراف، مروراً بالتقييم والتقويم، بل أضحت مُمثَّلة، الآن، بصعود الاستبداد والتسلُّطية، وبروز القومية الضيّقة والعنصرية، والإضعاف المُستمرّ للبروليتاريا، خصوصاً في المنحى السياسي، بإضعاف شأن النقابات بظاهرة العامل المُؤقّت، كما أشرنا، وهو ما ينذر بصعود الصراعات، وظهور نذر الحرب، بل الحروب (أوكرانيا وغزّة، إضافة إلى الحروب الاقتصادية الشرسة بين أميركا والصين).
المسلّمة الرّابعة تلك التي تشير إلى منطلق المفاصلة الإنسانية بمرجعية الثقافة، الحضارة والدين، ممثَّلة بمبدأ الأولوية القومية على حساب "المهاجر" و"الآخر"، حتّى لو كان حاملاً للجنسية الفرنسية، إذ شاهدنا ظهور دعوات إلى مراجعة قانون الجنسية، بمنحها، لا على أساس الولادة، بل على أساس العرق، إضافة إلى تلك الدعوات المُتصاعِدة لمنع المساعدات الاجتماعية، وفي احتمال فوز اليمين المُتطرّف برئاسة الوزارة برسم الدّور الثاني للتشريعيات الحالية (في 7 يوليو/ تمّوز)، قد يصل الأمر إلى منع الوظائف الحسّاسة أو العليا عن غير الفرنسيين الأصليين.
قرار ماكرون حلّ الجمعية الوطنية تجهيز للرأي العام لما سنراه حتماً في رئاسيات 2027، من دخول مارين لوبان قصر الإليزيه
نحن، إذاً، أمام تحوّلات عميقة تنذر بتغيير مجتمعي، لنكون أمام عالم من دون قيم، حيث انتشرت في فرنسا، وفي غيرها، عبارات وجوب التنكّر لمبادئ الحضارة الغربية أمام تحدّيات مزاعم الاستبدال الكبير والهجرة، وقد برز ذلك بوضوح في حرب غزّة حيث وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ إنكار أن يكون عدد القتلى هو ما تذكره مصادر عديدة، منها وزارة الصحّة في غزّة وبعض وكالات الأمم المتّحدة، بل تجاوز الأمر إلى إنكار صفة الإنسانية عن الفلسطينيين، ووُصِفَ الجيش الصهيوني بالجيش الأخلاقي رغم كلّ ما اقترفه منذ بدء الحرب على غزّة، ما يُؤكّد أن التحوّل ليس في مُسلّمات السياسة فقط، بل تجاوزه إلى ميلاد إنسان غربي جديد، شُكّل عقله لتقبّل ما تمليه تلك الأبواق الإعلامية اليمينية، التي تُموّلها دوائر النيوليبرالية. وقد ظهر ذلك بصفة واضحة في فرنسا من خلال رجل المال بولوري المموّل لقناة إخبارية يمينية تتصدّر الدعوة إلى ما ذكرناه كلّه، وفي الأصعدة كافّة.
تلك هي جملة المُسلّمات التي برزت في المشهد السياسي الفرنسي، ورغم أنّ الانتخابات، مبدئياً، لن تفوز فيها دوائر اليمين المُتطرّف بالأغلبية التي تسمح لها بتشكيل الوزارة وحدها، إلّا أنّ مُجرّد اتخاذ ماكرون قرار حلّ الجمعية الوطنية هو تجهيز للرأي العام لما سنراه حتماً في رئاسيات 2027، من دخول مارين لوبان قصر الإليزيه، إذ أضعفت سياسات ماكرون كلّ منافسيها السياسيين، لنكون حقّاً أمام مستقبل يُترجِم تراجع مكانة فرنسا وانتصار النيوليبرالية، ومشهدٍ قاتم للعلاقات مع الجنوب المباشر لفرنسا، في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، بل أفريقيا برمّتها، وفي المستويات كافّة، وقد تكون من نتائجها صعود التسلّط والصراعات، وربّما تمدّد الحروب، أكثر فأكثر.