في 4 آب الذي لا يمضي
ثمّة تواريخُ لا تمضي. تلتصق في موضعها وترمي بقيْحها على كل ما تبقّى من وقت، تنتشر بقعة زيتٍ عملاقة لا تني تتمدّد وتكبر وتلقي بظلّها على كل ما تلاها. هكذا هي 4 آب اللبنانية، لحظة انفجار مدينة، في السادسة وثماني دقائق تمامًا، حين حلّت ساعة هلاكٍ ومواتٍ طاولت الزمنَ اللبناني برمّته، فالزمنُ اللبناني معطّل اليوم تمامًا. كان وكأنّه يسير بغير انتظام، بغير ما تجري به أزمنة العالم منضبطة الإيقاع المضبوطة، فكان لا يزال فيه نبض، وإنْ كان بطيئًا، خفيفًا، متسارعًا حينًا ومتباطئًا حدَّ التوقف في أحيان.
منذ 4 آب، لم ينهض لبنان واللبنانيون من تلك اللحظة، حيث دُمّروا وبُقروا وانهاروا كما مرفأهم وأبنيتهم. هم يسترجعونها في كل مناسبة، حدوثها يلقي بظلّه على كامل مظاهر حيواتهم. من نسي يتناسى، ومن يتذكّر لا يني يتساءل ويستنكر ويغصّ بأسئلته: كيف أمكنهم أن ينفدوا من فعلٍ كهذا، من جريمة بهذا الحجم، من أكبر ثالث انفجار في العالم؟ قبل أن يجيب أحدُهم أن لا محاسبة لأية جريمة حدثت في هذي البلاد، وما أكثرها من جرائم. ولكن ... انفجار 4 آب شيء آخر. هو ليس اغتيالًا لشخصية، لمجمّع سكني، لشارع. إنه عملية قتلٍ عن سابق تصميمٍ وعمد، لقلب مدينة!
بيروت التي انفجر قلبها بعد أن التهمت نيرانُ الحرب أعضاءها وشوّهتها، لن تنهض بعد الآن. أصلًا، نحن لم نعد نريد لها أن تنهض. نريدها أن تبقى أرضًا، ممدّدة من دون حراك، متحلّلة ومنتنة من دون زينة وماكياج. نريدها أن تعترف أخيرًا بموتها المتحقّق، فتركن أخيرًا إليه، تُقيم فيه، وإن لم تُقَم لها مراسيمُ جنازة أو يُعلن عن حِداد. الجنازة في أفئدتنا، والحِداد الذي يغلّف أرواحَنا ويلويها يومًا بعد يوم، هو الدليل. اسمعي، نحن لم نعد نريد لك أن تنهضي، أقفلي مسامَكِ ولا تصغي مزيدًا إلى من يردّد كببغاء مختلّة أنك طائر فينيق، لأن الطيور على أنواعها نتفنا ريشَها وطحنّا عظامها ودفنّاها تحت سابع أرض. لا تصدّقي بعد الآن من يخبرك أنك ستبقين الواقفة أبدًا، العائدة أبدًا، لأن سيقانك بُترت، وشرايينك فرغت، وأطبق عليك ليل.
أجل، موتي يا بيروت، اكتمي أنفاسَك، أطبقي عينيك، واسكني إلى العدم. بحقّ ضحاياك الكثر عليك، بحقّنا نحن أولادك الذين نريد أن نبكيك أخيرًا، أن نبلغ جسور الأحزان علّها تعبر بنا إلى زمنٍ يعاود جريانه من جديد. موتي بحقّ كل الذين فُقدوا وضاعوا ولم نعرف إلى اليوم عنهم شيئًا، بحقّ الذين جرفتهم الحروبُ المتتالية، بحقّ أبنائنا الذين غادروكِ وهم ما زالوا يتلفتّون إلى الوراء، بحقّ غرقى بحرك الجميل وهم يتزايدون يومًا بعد يوم. كفي عن التمثيل، عن المكابرة، عن تصديق مجموعة مهرّجين مأجورين يدورون بين أحيائك، مدّعين أن الحياة لم تزل على حالها، وأن أمكنتك تضج بالفرح والحياة. لقد حلّ الليل، يا حبيبة، وما من سبيل إلى ردّه. أنت في العتمة الشاملة. في قلب الخراب، فاستسلمي إلى موتك ولا تقاوميه.
أوَ تدرين؟ لسنا نفهم، نحن العائدين إلى زيارتك في المناسبات، ما هو ذلك الخيط الخفي الذي ما زال يشدّنا إليكِ، وكيف أننا، في كل زيارة، نستنشق هواءك الآسن وكأنه أفضل أكسجين على الإطلاق، كيف نستسلم لشاطئكِ تهدهدنا أمواجُه المتدافعة كأنْ لتبلغَنا ويبلّلنا الشوق، ولا كيف ما زلنا نحلّق مغتبطين في سمائك المتراوحة بين الزرقة وبياض النفناف. نحن العائدين إليك يلفّنا الأسى والحداد، نكاد نصرُخ في جثّتك لماذا تركتِنا وشرّدتِنا ولمَ انفكّت ذراعاكِ من حولنا وما تشبّثتِ بنا وأبقيتِنا في أحضانك؟ لمَ تعوّدتِ هكذا على كل أنواع العنف والإساءة والمذلّة والهوان، وانخرطتِ راضية في فجيعتك كأنك تنخرطين في أجمل الأعراس. لِمَ ما زلتِ تبصقيننا بعيدًا عنك وإلى متى ترانا سنبقى مشدودين إليك، ممغنطين بهواكِ لا نقوى على قطيعة أو بُعادٍ نهائيَ؟