قتلت ولدي
ما زالت مصطلحات العصر تصدمنا أكثر مما تبهرنا، فقبل نصف قرن كان الطبيب النفسي في أحد الأفلام الكوميدية يعالج مريضا يعاني من سخرية الناس منه بسبب قصر قامته، ولكن الطبيب لم يفعل شيئا سوى أن طلب منه أن يردّد عبارة على الدوام، لكي يتقبل وضعه، والعبارة ذاتها لو قيلت هذا اليوم للشخص نفسه، والذي يعاني من المشكلة نفسها، فسوف يسارع إلى أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ليعلن تعرّضه للتنمّر، وربما أقدم على الانتحار على الهواء مباشرة، تاركا رسالة مؤثرة. أما لو عدنا إلى العبارة العلاجية التي تطفح بالتنمّر فهي "أنا مش طويل وأهبل أنا قصير قزعة".
من مصطلحات شاع استخدامها أخيرا "اكتئاب ما بعد الولادة"، وأصبح يتردّد بكثرة، وفي الوقت نفسه، يحذّر منه الأطباء والمختصّون النفسيون، ولكننا نحن الأمهات من جيل السبعينيات، مثلا، نستغرب من هذا المصطلح، ونستهجن أن تُصاب الأم بعد الولادة بالاكتئاب. ونحن نسترجع ذكرياتنا مع أيام أمومتنا الأولى، وكيف كنّا نُحاط بجيش صغير من المؤازرين والمؤازرات، بدءا من الأم ومرورا بأم الزوج والشقيقات لكلا الزوجين والعمّات والخالات والجارات الطيّبات.
لا أذكر أنني عانيتُ أو شعرتُ بأي محنةٍ أمام مسؤولية الأمومة الأولى أو الأمومة الثانية والثالثة والرابعة، ففي كل مرّة كنت محاطة، كما ذكرت، بجيش من المؤازرات الطيبات، ولم تتوقف أمي عن رعايتي، حسبما تقتضي العادات والتقاليد، حتى ينقضي الأسبوع الأول من عمر المولود، وحين تقرّر الجدّتان الطيبتان الاحتفال بما يعرف ب "سبوع المولود"، وحصول المولود على حمّامه الأول، محفوفا بالهدايا والأغاني والأمنيات، وكل مظاهر الفرح التي تتضاعف مع حلول المولود الذكر، بحيث يتوارى وينزوي أي مصطلح دخيل، مثل الذي يروج الحديث عنه في أيامنا هذه.
في أيامنا هذه، وقبل أيام قليلة بالتحديد، أقدمت أمٌّ مصرية شابة على قتل أطفالها الثلاثة وأصغرهم يبلغ ثلاثة أشهر، وعمر هذا الطفل بالتحديد أفسح مكانا لتحليل الوضع النفسي للأم، وبأنها تعاني من الدرجة الثالثة مما يُعرف باكتئاب ما بعد الولادة، وحيث يفيد الأطباء النفسيون بأن هذه المرحلة توصل الأم إلى قتل نفسها أو وليدها أو الإقدام على الجرمين معاً.
سفر الزوج من أجل العمل وبقاء الأم وحيدة ليس بالحالة الطارئة، فهذا ما اعتاده الأزواج الذين يطمحون إلى زيادة دخلهم ورفع مستوى معيشتهم، وفي وقتٍ كانت فيه دول الخليج حلما لكل زوج وربّ أسرة، حيث يسافر للعمل، ويترك الزوجة مع الأولاد وتصبح العلاقة بينهما عبر الاتصالات التي تطوّرت من رسائل بريدية تستغرق وقتا حتى تصل، ومكالمات دولية ينبغي تقنينها لارتفاع تكلفتها، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، من تواصل على مدار الساعة، ومن خلال عالم السوشيال ميديا، ولكن ذلك لم يمنع أبدا شعور الزوجة بفقدان الزوج والأب، وضرورة وجوده بين العائلة، وخصوصا في أوقات مهمة، مثل قدوم مولود جديد أو استعداد الأبناء الآخرين للتقدّم للامتحانات.
الأم المصرية الشابة التي أقدمت على قتل أولادها، ثم حاولت الانتحار، تعرّضت لضغط نفسي هائل، حسبما أوردت التحقيقات والحقيقة الغائبة عن الجميع، أن الأم قد شعرت بثقل المسؤولية مع غياب الأب، ومع عدم وجود مساعدات تربوية والتأهيل النفسي لها، بل إننا وجدنا أحد دعاة الدين يخرج في تغريدةٍ قميئةٍ منحازة، تجيز للزوج المسافر، والذي يخشى على نفسه من الوقوع في الرذيلة، بسبب بعده عن زوجته، أن يتزوج بزوجة أخرى، ولكنه لم يشر، ولو بطرف خفي، إلى صمود الزوجة وصبرها وانتظارها في البلد الأم، وما تحتاجه لتعويض الحنان والأمان على الأقل، وليس إشباع الشهوة كما هو متوقع لدى الزوج الذي قد يتعرّض لفتن ومغريات في الغربة. ولذلك نحن أمام قضية قتل وتحريض عليها من وقوف صامت لمجتمع جائر، لا يتبنّى التوجيه والوعي الديني والثقافي للزوجين، قبل أن يقع الزواج من الأساس.