قيم ذلك الزمن
يعود عادل (عبد الحليم حافظ)، الطالب الجامعي ابن العائلة المصرية التقليدية، من رحلة التيه التي أخذته إلى العيش في الكباريهات، ذات صيف في الإسكندرية، مع فردوس (ناديا لطفي) الراقصة الفاتنة التي جعلت والد عادل (عماد حمدي) القادم للبحث عنه، يتحوّل من رجل وقور إلى رجل يقضي وقته مع الراقصات في الكباريه، يستقبله أصدقاؤه بترحابٍ، وتخبره أمال (ميرفت أمين) حبيبته أنها قد تغيرت، بدت أمال في فيلم "أبي فوق الشجرة" (1967، إخراج حسين كمال، قصة إحسان عبد القدوس)، كما لو أنها هي المسؤولة عن هروب عادل إلى حياة اللهو مع الراقصات، بسبب رفضها أفكار الحرية في علاقتها معه، ورفضها الانفراد به، لكنها في نهاية الفيلم تتخلى عن أفكارها البالية تلك، وتعترف بأنها كانت مخطئة، وتعود لتتقرّب من عادل الذي كان يبحث عن علاقة كاملة مع حبيبته .. كنت أتحدّث مع صديقة عن جملة أمال في نهاية الفيلم، إنها تغيرت وأصبحت أكثر حرية، لأُفاجأ بردّ صديقتي: "آه .. ده كان مناسب لقيم زمنهم".
قد تبدو فكرة الحرية في العلاقات الاجتماعية على طريقة "أبي فوق الشجرة" شأنا سخيفا وساذجا لو تم تقييمه بشكل منفرد. ولكن إن نظرنا إلى حال المجتمع العربي ذلك الزمن وحاله اليوم، ومن خلال ما يتعلق بالفنون فقط، لاكتشفنا أن الكارثة التي حلت بهذه المجتمعات مهولة، وتحتاج للتخفف منها زمنا أطول بكثير من الزمن الذي احتاجته لتنتشر، فما حدث ليس فقط نكسة في الحريات المجتمعية أو الفردية، بل نكسة على مستوى فهم الجمال وتذوّقه، فإن كانت ظاهرة لبس النساء الحجاب التي انتشرت مع سبعينيات القرن الماضي شأنا شخصيا، فإن ما رافقها وتلاها لا يمكن وضعه سوى في بند تدمير هذه المجتمعات، بدءا من تحريم الجمال الشخصي والعام (الفنون على أنواعها)، ثم الانحدار في مستوى الذائقة البصرية، واعتبار القباحة، على كل المستويات، أمرا عاديا والتعايش معه بوصفه "حلالا"، وكل ما ضده هو "حرام"، والهوس "الجنسي" الذي أصاب المجتمع العربي، بحيث يصبح كل ما يتعلق بالأنثى موضوعا جنسيا بحتا، من لباسها وحتى حقها في التعليم والعمل واختيار شكل حياتها ومستقبلها، واستباحة أي ذكر مهما كان حياتها وجسدها، بذريعة وصاية مجتمعية و"دينية" أعطتا للذكر مكانة متقدمة على مكانة الأنثى، وكرّست البطريركية الذكورية في كل مناحي الحياة.
يبدو المجتمع العربي خلال الخمسين سنة الأخيرة كما لو أن أحدا ما اقتطع زمنه من سيرورة التاريخ الطبيعية وأعاده إلى عقود ماضية، هي أقرب ما تكون إلى عقود الانحطاط، ذلك أن أفكار الحرية المجتمعية التي كانت سائدة حتى بداية سبعينيات القرن الماضي في المجتمع العربي، وتم التنظير لها عبر مختلف أنواع الفنون، قد تم إجهاضها بالكامل، بعملية تغيير منهجية ومدروسة ودؤوبة للذاكرة الجمعية العربية، تم فيها نسف كل قيم الطبقة المتوسطة العربية التي كانت حاملةً أفكار الثورة الاجتماعية والتحرّر المجتمعي، وإحلال قيم أخرى مستعارة من ماضٍ فقهيٍّ يضع الأولوية للتحليل والتحريم، حتى في أكثر التفاصيل اليومية تفاهةً وعاديةً، ما أبقى العقل الجمعي العربي منشغلا بهذه التوافه الماضوية، ومستسلما لما يقوله فقهاء يدّعون الاجتهاد في شؤون الدين والدنيا، ويتحالفون بشكل كلي مع السلطة السياسية لإنتاج استبداد مزدوج سياسي وديني، على حساب العقل التحليلي العلمي الذي يسأل ويشك ويحلل ويفسّر ويخطئ ويصيب، ويساهم في بناء الحضارة الإنسانية والتقدّم العلمي والتقني، والذي هو السياق الطبيعي للتطور البشري ولسيرورة الزمن.
استطاعت البشرية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحقيق خطواتٍ مهولة في التطور العلمي والطبي، ودخلت في مرحلة ما بعد الحداثة في التقدّم التقني، ووصلت الليبرالية الاجتماعية إلى حد قبول كل أشكال الحرّيات الجنسية وحمايتها قانونيا، بينما بقيت مجتمعاتنا رهينة ليبرالية السياسات الاقتصادية والاستبداد الفقهي السياسي والديني، ومجرّد مستهلكة للتطور التقني والعلمي الغربي. والطريف أن التحليل والتحريم طاولا حتى وسائل التطور هذه، التي لا يتورّع بعض الدعاة عن استخدامها لنشر أفكارهم التي ساهمت وما تزال في جعلنا في أسفل درك المجتمعات البشرية، يصاب أبناؤها بصدماتٍ حضاريةٍ متلاحقةٍ مع كل خطوة جديدة في خطوات ما بعد الحداثة الغربية، بينما نكتفي نحن بصور من أيام ما يسمّى "الزمن الجميل" الذي اختفى بما له وما عليه.