قَوْلٌ في "المِثْلِيَّة المغاربية"

25 اغسطس 2024

(بابلو بيكاسو)

+ الخط -

لا يخلو أي بلد مغاربي، وربما مختلف البلدان بدرجات مختلفة، من وجود "حياة سرية"، ممنوعة بقوة القانون، أو بالوازع الأخلاقي، أو بالاعتقاد الديني، أو بالعرف الاجتماعي، أو بالاستبداد السياسي. وتقوم تلك الحياة في مختلف مناحي الوجود الإنساني حيثما يتمكّن الفرد، بصرف النظر عن طبيعة النوع البشري وسنوات الأعمار ودرجات التطور ومستوى الوعي المكتسب، من التصرّف المُعيّن على أنه، من حيث التفكير وفي سبيل خوض غمار الممارسة، الحقّ الطبيعي الذي لا "يَكْفُلُه" إلا شعوره الخاص بأنه يتمتّع بمطلق تلك "الحرية" التي قتلها الفلاسفة بحثاً عن المعنى فلم يجدوا في التفلسف إلا القيود.

المهم، في هذا، أن الاعتقاد في الحقّ، في موازاةٍ مع الاعتقاد الآخر في ممارسة الحرية، (حوار ضمني بين المفهوم والتأويل إذا شئنا)، يجري في اللحظة عينها التي يتحوّل فيها الفعل إلى مغامرة ضمن محيط اجتماعي، وفي النسيج الذي يؤطّر الحياة والممارسة والتفكير المنطقي في بعض الأحيان. أي في النطاق القائم المحروس بالشرائع المختلفة، دينية وغير دينية، والقوانين الوضعية المسنونة، فضلاً عن التأويلات النابعة منها، وعن البناء الأيديولوجي الذي يزكّي مختلف أشكال الممارسات، أو يعلّل دوافعها، وبصورة خاصة في حَيّز مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الاتفاقية لا تترسّخ في الواقع، ولا تعيش في استقلالٍ عن الأفراد، وفي تفاعل متبادل معهم أيضاً بحكم الضرورة والاستعمال، إلا عندما يتوافقون على تسميتها، بدافع الحرص، أو المصلحة، بـ"السلم المدني" أو بـ"الحالة الاستثنائية" أو بـ"الصراع الطبقي المنظّم" أو بـ"الوئام والتحضر" ... إلخ. ومنهم من يحوّل ذلك كله إلى "قانون" اقتصادي مرتبط بالسوق، يفلح في إقناع الزبون بأهمية البيع والشراء، والمبادلة التجارية، والربح والخسارة وسوى ذلك، أي كل ما يرتبط، في الواقع، بطَرَفَيِ المعادلة القائمة دائماً: على القوة والعمل في جانب، الرأسمال والاستغلال في جانب آخر. والتسميات الاتفاقية النابعة من مصالح، بسبب الاتفاق الذي يُحَدّد معانيها ويسيّجها، لا تفيد إلا في الكشف عن الاختيار المناسب، أو الأسلم، لكي يكون وجود الفرد في المجتمع محكوماً مضبوطاً بصورة تلقائية (درجة التحضّر)، أو بتدبير سلطوي قمعي (درجة الاستبداد)، تلافياً لقيام الحروب الأهلية الممكنة، أو بروز الصراعات المدمّرة، وإقراراً للخضوع السياسي المطلوب، أو لكي تكون السيطرة المطلقة، القائمة على العنف والقهر، هي الأسلوب الممكن، إن لم يكن الوحيد، لمواجهة المخالفين والمختلفين والخائفين في العالم السرّي المنتشر في المجتمع، وقد يكون أيضاً على صعيد النظام الحاكم نفسه.

المقصود بالحياة السرّية في الدول المغاربية هو تلك التي توجد، من الناحية النظرية، على هامش المجتمع المُرَاقَب، وفي غفلةٍ، غالباً ما تكون مفترضة، عن العيون الساهرة للسلطة المتحكمة

بناءً على هذا الفرش، يمكن عرض مختلف القضايا والظواهر المنتشرة في المجتمع، كما يمكن مناقشة حالاتها وظروف ارتباط الأفراد بها في تجاربهم اليومية، لأنها من القضايا والظواهر التي تبرُز في حيواتهم، اعتباراً للاختلاف الذي يؤطّر وجودهم والتناقضات التي تعمّ أيامهم، بالإضافة إلى الأهداف المتناقضة التي تحرّك اهتماماتهم، ودرجات الوعي التي ترسم، لكل واحد أو لجميعهم، أفقَ تفكيرٍ لا يمكن تخطّيه، كما تُبَرِّرُ لهم أنجع السبل لِجَنْي المغانم، أو التحسّر على المفاسد، أو القبول (والتبرير هنا مَدْحٌ للقناعة والرضا) بالأمر الواقع والمكتوب. وعموماً، الخشية الوحيدة، في ظل القوانين المسنونة، أن يتحول الفعل إلى جريمة، أو الحقّ، إنْ وُجِدَ، إلى ظلم وباطل، أو القوة إلى استبداد، أو الديمقراطية إلى فوضى ضد السلطان الحاكم بالشرعية المُتَوَهَّمَة.

المقصود بالحياة السرّية في الدول المغاربية هو تلك التي توجد، من الناحية النظرية، على هامش المجتمع المُرَاقَب، وفي غفلةٍ، غالباً ما تكون مفترضة، عن العيون الساهرة للسلطة المتحكمة. ولكنها، من الناحية الفعلية، حياة حقيقية في ظلّ العتمة، وظواهرها قائمة في نطاق المنع، أو مقموعة، ولكنها تتمتّع، مع ذلك، بنوع من التستّر الأعمى الذي لا يفلح في إدانتها، بل لا يريد، مع الاستطاعة، خوفاً من تحوّل المنع القانوني، في نظر الأغيار المُرَاقِبِين، إلى اتهام بالتحكم المقرون بالاستبداد أو بغيره (الخصوصية، المحلية، الشأن الخاص). وَكَمْ تنزعج الديمقراطية المُدَّعاة عندما يكتسي الفضح في التقارير الدولية طابع الاتهام أو الإدانة.

تعني السرّية، في هذا المجال، أنها "خشية" مفروضة لا تتمتّع بأي اعتراف، أو أن الاعتراف بها (العلانية، لا الشرعية) يحتاج إلى عمل شاقّ، دونه النصوص الزجرية والموانع الأخلاقية والقانون الوضعي أيضاً. وعندما تتعارض السرّية، ممارسةً، مع منظومة القيم السائدة، نصوصاً أو اعتقاداتٍ، تصبح، بعد المفسدة، إفساداً مرتّباً ومقصوداً للوضع الأخلاقي والاجتماعي معه. هكذا تُؤوَّل العملية، في الدائرة المغلقة التي توجد عليها في المجتمع، لأنها أمست سلوكاً مقبولاً ومرفوضاً على الدرجة نفسها تقريباً من المَقْبُولِيَّة، (بمعنى الاتساق والانسجام)، ولأنها تدور أيضاً، انطلاقاً من بعض "المسلّمات الدينية" المتمكّنة من المجتمع، حول محورين متقابلين: المنع والإباحة، يدانيهما القانون و"الغاب"، وتداعيات أخرى تتبعهما، كالنور والظلام، الجاهلية والعلمانية، الإيمان والإلحاد، وقس على ذلك من المتناقضات الجذرية التي يستحيل التأليف بين معانيها الدلالية.

المطالبة بالحرية لا تنفصل عن المطالبة بإقرار العمل بالنظام الديمقراطي، وفي أساسه الحقوق والحرّيات المذكورة للشعوب في جميع المواثيق الأممية الإنسانية

لو اعتمدتُ على الظن أسلوباً في التقدير لقلتُ: إنَّ مِن الموضوعات التي تدخل في هذا الإطار، وبعضها قائم راسخ في نسيج المجتمع، موضوع المثلية الجنسية، المحفوف فعلياً، كباقي موضوعات الحياة الإنسانية التي تتلفّع بالسر ويقنّعها التستر، بكثير من المحاذير القانونية والطهرانية الأخلاقية، رغم انتشارها الواسع، وتنوّع أساليبها في المجتمعات المغاربية، تبعاً لاختلاف التطوّر التاريخي لهذه المجتمعات على مستوى القيم، والأخلاق الدينية السائدة وما يتفرّع عن ذِهْنِيَّتِهَا من مكارم أو مَعَايب، تحليل أو تحريم...

الواقع أن البلدان المغاربية لا "تتشابه" في أي شيءٍ تقريباً إلا في المقتضيات التي تَعْرِضُها على الناس لتطبيق صنوف (وأشكال) المنع العلني القانوني والأخلاقي والديني للمثلية الجنسية حيثما برزت. هذا مع الإشارة، في السياق نفسه، أو في خلفيته، إلى شكلٍ آخر من أشكال "التشابه" الممكنة، المقصود بها ما يمارسه المثليون أنفسهم في تلك البلدان من تنسيق وتشاور فيما بينهم حول قضايا تخصّ وجودهم الممنوع، أو للتعبير عن الرفض والإدانة للازدواجية السلوكية المتبعة من السُّلط الحاكمة، أو للتجنّد صراحة لمقاومة الأوضاع السائدة على صعيد المجتمعات وفي الذهنيات، من دون أن ننسى تلك المشاركة الجماعية لحركة "المثلية المغاربية" مع مثليي أوروبا، ومناطق أخرى، في مناسبة يَوْمٍ عالمي (28 يونيو/ حزيران) لـ"لمطالبة" بما سبق للعرب، أو لبعضهم، أنْ عدّوه "فطرة فيهم"، من حيث التباهي وَحُب إظهار المزايا الشخصية.

لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن بين البلدان المغاربية سياسة مشتركة لمقاومة المُسَمى "مجتمع المِيم"، كما لا يمكن الاطمئنان، فيما يرجع إلى الموانع المقرّرة، باستثناء ما للدين من دور وللأخلاق (الطهرانية) من حافز، إلى وجود شكل واحد، أو طريقة فعّالة، مفروضة أو متاحة (وليس مباحة)، في تلك البلدان لمحاصرة المطالبة بالحريات الفردية، أكانت مرتبطة بالزَّعم الذي يقرنها بالتوجهات اليسارية، أم هي على تنسيق، إن وجد على نحو خاص، مع الحركات المثلية في أوروبا. هذا يعني أن البلدان المغاربية تتصرّف إزاء المثلية على ضوء العقيدة الدينية، ولا يمثل القانون الرادع، في ما يخص ترسانتها منه، إلا المبرّر الذي "يجيز" المنع وما قد يتفرّع عنه من عقوبة تصل إلى عاميْن حبساً بحسب المادّة 338 من قانون العقوبات في الجزائر، وثلاث سنوات اعتماداً على الفصل 230 من قانون العقوبات في تونس، وثلاث سنوات مع الغرامة بحسب المادة 489 من القانون الجنائي في المغرب، وهي في موريتانيا من ثلاثة أشهر إلى سنتين مع الغرامة بحسب المادّة 308 من قانون العقوبات، وقد تصل في ليبيا، بحسب المادّة 410 من قانون العقوبات، إلى أربع سنوات.

تونس يمارس فيها المثليون نوعاً من جرأة "ليبرالية"، جعلت أحد أفرادهم يعلن جهاراً ترشّحه الإعلامي، أو الرسمي، للانتخابات الرئاسية.

ألاحظ، على ضوْء ما يُذاع وينشر، وتُفْشِيه مواقع التواصل الاجتماعي خاصة، أن تونس، من بين البلدان المغاربية، هي الدولة التي يمارس فيها المثليون نوعاً من الجرأة "الليبرالية"، تلك التي جعلت أحد أفرادهم يعلن جهاراً ترشّحه الإعلامي، أو الرسمي، للانتخابات الرئاسية. وقد لا يعني هذا شيئاً، إلا أن الخروج به إلى العلن هو خروج بالموقف المِثْلي إلى الساحة العمومية الرسمية التي تستبدّ بها السياسة، ميدان تسلطها، ويجعل منها الدين بحكم التأويل مجال تحكمه الشعوري في الأفراد.

الحالة في باقي الدول المغاربية، مع وجود اختلافات ثانوية في الموقف، وفي أساليب التعامل، بالإضافة إلى الانقسامات الأخرى البادية على المجتمع، لا تدعو إلى القلق، كما يُقَال أمام الأزمات المُهْلِكَة، بل تقيم الحجّة على أمرين مترابطين: أن المطالبة بالحرية لا تنفصل عن المطالبة بإقرار العمل بالنظام الديمقراطي، وفي أساسه الحقوق والحرّيات المذكورة للشعوب في جميع المواثيق الأممية الإنسانية، للقضاء، أو للحد، من ممارسة الاستبداد السياسي والهيمنة الأيديولوجية للسُّلطات الحاكمة. والثاني أن المطالبة بممارسة الحق، خصوصاً إذا كان مشمولاً بالأخلاق الدينية، يلزم أن تتحرّر من "التأويل المقاصدي" الذي يتهم الممارسات المختلفة بالشذوذ، ويدين انحرافها عن "الطبيعة البشرية". هذا مع الاعتبار بأمرين آخريْن يرتبطان بهما: الأول يعني أن التعبير عن الميل الجنسي المثلي يزداد مع المنع قوة، ومع الإكراه قدرة على الممارسة الجريئة، ومع "الشذوذ" الذي يوصم به صلافةً في الدعوة إلى الحرية الفردية. والدليل أنه أصبحت للميل المثلي المذكور، وهذا هو الأمر الثاني، مواقعه وصفحاته وممثلوه وحركاته "الباطنية"، مع الإشارة إلى أن الفئة المهمّشة منه، التي لا صوت لها في سرّيتها الدائمة، ماضية في ممارسة مثليّتها في عمق المجتمع القامع المانع، وفي الحالة المُذِلَّة للوضع السكيزوفريني الراسخ في المجتمعات، خصوصاً عندما "تتفاعل" تلك الحالة، بطريقة مقلوبة، مع السلطة الاستبدادية الحاكمة باسم "الشرعية الوطنيةّ" المنافحة عن القِوَامَة والصلاح ومحاربة المنكر.