كتابٌ لكلّ يوم
لم أتخيّل الجنة سوى أنها مكتبة كبيرة كما قال بورخيس. وهذه حقيقة، لأني وجدت الراحة والمتعة بين أرفف مكتبة أبي، وكان ذلك التجويف الضيق ما بين المكتبة وأقرب أريكةٍ إليها بمثابة الكهف الذي كنت أختفي فيه لضآلة حجمي مع كتاب. ويفشل الجميع في العثور عليّ حتى أصبحتُ أنبئهم عن مكاني بأن أرفع يديّ ملوحة بكتاب، فيضعون بين أصابعي القابضة عليه، وبصعوبة بالغة، شطيرة أو قطعة حلوى أو قطعة من الفاكهة قشّرتها أمي للتو.
هكذا كان عالمي الأول يسحبني من العالم الموحش، وحيث باتت القراءة بمثابة الفأس التي ترتطم برأسي، لكي توقظ ضميري ويبقى منتبهاً لا يغفل، مثلما قال كافكا: "إذا لم يوقظنا الكتاب الذي نقرأه بلكمةٍ في الرأس، لماذا نقرأ الكتاب إذاً؟!". وهكذا صاغت القراءة ضميري من معدنٍ لا ينثني ولا يصدَأ ولا يبلى، وعشتُ بين الورق المطعّم بالحبر بين القضاة والحكّام العادلين والمنادين بالحق وكل من يردّ المظالم فعشتُ مبهورةً بالعوالم المثالية الخيالية.
ولذلك عليّ، في اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، أن أجدّد اكتشافي بأني قرأتُ أكثر مما كتبت. ولأن القراءة هي النبع والكتابة هي المصب، عليّ أن أحتفي بما قرأت، لأن النبع ما زال في قمّة عطائه، وما زال للورق والحبر بريقهما وجاذبيتهما، ليأخذاني من قسوة العالم وينتحيان بي جانباً بكل رفق، لكي أقلب الصفحات وأتزوّد بخير الزاد، وكلي ثقة إنني سوف أحنى رأسي بعد ذلك لكي أكتب، وإنْ كانت كتاباتي لن تُجاري قراءاتي، لكنّي قادرةٌ على أن أفعل كردّ فعل لذلك العالم الذي دخلتُه بقدميّ طواعيةً، منذ كنت طفلة صغيرة. وحين كانت صويحباتي يلهين بالدمى، كنت أتأمل أغلفة الكتب وأرتّبها وأنفض الغبار عن رفوف مكتبة أبي وكأني أستعدّ لرحلة مقبلةٍ لكي أبحر أو أقلع، فأنا في تلك السن الصغيرة بدأ اكتشافي أن عالمي سيكون مختلفاً، وأنني لن أكون مجرّد امرأة جميلة، لكنّي سأكون ذات عقل لا يتوقّف عن امتصاص كلّ ما تقع عليه العينان الدائرتان في محجريْهما، وأنّ روحي سوف تجتهد في حياكة الكلمات وربطها بألحان موسيقية أنيسة، وإن كانت ألحاني وحتى اللحظة لم تنل كامل الرضا مني، لكنّها باتت تُسمع.
وفي اليوم العالمي للكتاب، أجدّد عشقي عزلتي التي بدأت بين المكتبة والأريكة. وفيما كان بيتُنا يضجّ بفوضى الصغار في أمسيات الصيف الحارّة، وها أنا وبعدما تجاوزت الخمسين أفعل الأمر ذاته، وأختار هذا السجن الانفرادي القريب البعيد، وحيث أحيك حولي نسجاً يبعدني عن قسوة العالم، حين ألوذ بكتابٍ وفنجان قهوة، ويحيا في داخلي وقتها، وفي كلّ مرّة، لأفعل ذلك، شغفي الميّت من صخب الحياة وآلامها وقسوتها.
وفي اليوم العالمي للكتاب، أعترف بأنني لم أحزن في حياتي إلّا مرّات أربع، أولها يوم ماتت أمي، ولحقها أبي وقبلها يوم حرمني أبي من رواية لإحسان عبد القدوس، عاب عنوانها. وقطعت عهداً أمامه أن أعيدها من حيث جئت بها، من دون أن أقرأها. والرابعة يوم ألقى زوجي بديوان شعر لنزار قباني من الشرفة، ورقد على الرصيف المقابل، وسرعان ما اغتسلت أوراقه بالمطر الغزير، وتخيلت نزاراً بمعطفه الثقيل يقف إلى جواره، وينظر نحو شُرفتي بألم، ويطالبني بأن أثور، وكأنه يقول لي: تحرّكي يا صغيرتي لا تقفي مثل المسمار.
وأخيراً، وفي اليوم العالمي للكتاب، أمهر توقيعاً بالاعتراف والولاء، فأنا مدينة للكتب التي حوّلتني إلى إنسان عالمي كوني. فإن لم تُتح لي الفرصة لكي أسافر، فأنا قد قرأت، وفُتحت لي خزانة العالم من خلال كل كتابٍ قرأته، وما زالت تلك الخزائن تُفتح، وأنا أخصّص كتاباً لكلّ يوم، فنجحت أيّما نجاح في أن أحيا حيوات أخرى، غير تلك الحياة اليتيمة التي نعيشها، والتي فرضت عليّ. ولذلك لن أتخلّى عن حياة باقية سوف تُمنح لي ما دام أمامي كتابٌ لكلّ يوم.