كراهية الجمال والسوشيال ميديا
لا يمكن لأحد من روّاد "السوشيال ميديا"، ممن تجاوز منتصف العمر بسنوات عدة، وعاش معظم حياته ضمن شريحة مجتمعية لم تختلط كثيرا بغيرها (وهنا أقصد الشريحة التي تعمل في الثقافة والأدب والفن)، أن يتجاهل بسهولة جحافل الجراد، حرفيا، ممن يملأون صفحات التواصل، ويعملون بدأب استثنائي على تجريف كل ما يخصّ العرب والمسلمين من أي أثر للجمال. ولا يمكنه سوى أن يتساءل إن كان كل هذا البغض والكراهية للجمال موجودا منذ زمن، ثم أتاحت له وسائل التواصل أن يمد برأسه ويعلن عن وجوده، أم أن وجوده تزامن مع انتشار وسائل التواصل، وهو ليس سوى نتيجة من نتائج الهزيمة المحزنة للربيع العربي واستعادة الاستبداد السياسي مكانته بقوة أكثر، وانكشاف الفشل الذريع في الدول والمجتمعات، سيما على المستويين: الاجتماعي بقيمه الأخلاقية، والاقتصادي بقيمه الاجتماعية المتمثلة في سقوط الطبقة المتوسطة بثقلها القادر على نقل المجتمعات الفاشلة إلى أخرى حديثة ومواكبة للتقدّم المتسارع في كل المجالات في دول العالم المتحضّر.
ومن نافل القول طبعا إن المجتمعات العربية، فيما لو كان قد أتيح لها أن تتخلّص مما هي فيه، كانت ستبقى محافظةً على مجموعة من القيم تتناسب مع ثقافتها الدينية المتأصلة، الثقافة التي كانت موجودة مند ما قبل منتصف القرن الماضي، أو تحديدا، قبل أن تتحوّل أنظمتها إلى أنظمة عسكرية فاشية محمّلة بثقافة ريفية اصطدمت بمدنية حضرية في العواصم والمدن الكبرى، ولم تستطع تحمّلها. وبدلا من نقل المدنية إلى الريف، نشرت قيم الريف في المدن الكبرى، نتيجة للسياسات الاقتصادية (بما لها وما عليها) التي اعتمدتها لتثبيت سلطتها التي دعمتها لاحقا بالتحالف مع مؤسّسة دينية رسمية يزداد حضورها وقوتها بانحسار قيم المدنية في المجتمعات.
والحال أنه لا يمكن لأي صورة أو خبر يتعلق بفنان أو بفتاة جميلة أو بظاهرة مجتمعية أن يمرّ مرور الكرام حاليا على وسائل التواصل الاجتماعي العربية. ليس فقط في كمية وعدد الفتاوى المهول، التي تصنّف الفنانين بأهل النار، بل أيضا بتلك التي تتوعّدهم بعذاب القبر وبالسعير وبأصناف من التعذيب في الحياة الآخرة تتفوق مئات المرات على أصناف وأنواع التعذيب الذي تمارسه الأنظمة العربية ضد معارضيها. وهنا لا بد من السؤال عن هذه الصورة المترسّخة عن الله في أذهان العامة، فإن كان "الله جميلا يحبّ الجمال"، فكيف يستوي لديهم جمالُه مع القبح الدي يضفونه على جلالته لمجرّد أن هذه السيدة في الصورة جميلة أو لمجرّد رؤية أحد يعيش حياة طبيعية ويتنعّم بنعمة الجمال التي خلقها الله به، ويتنعم بالحياة التي منحها الله إياها؟ أما الأدهى فهو جحافل الشامتين بصور المشهورين وهم في سنّ متقدّمة، واعتبار تغيرات الزمن عليهم عقابا من الله تعالى على ما ارتكبوه من معاصٍ في حياتهم؟ هل حقّا لا يدرك هؤلاء أن دورة الحياة الطبيعية تبدأ بالطفولة فالمراهقة فالشباب فالكهولة فالعجز فالموت، وأن هذه الدورة تخصّ جميع البشر؟
نادرا ما مرّ على التاريخ الإسلامي هذا العدد المهول من المتحدّثين باسم الله على الأرض، ونادرا، على ما أظنّ، أن تحدّث أحد باسم الله بمثل هذه اللغة الممتلئة بالعنف والتشفّي والحقد على المختلف، خصوصا إذا كان الله قد وهب لهذا المختلف الجمال أو الموهبة، أو كان يتمتع بقدرٍ من الحرية تصنّفها العامة بالشذوذ أو الدياثة أو الزندقة .. إلخ. وفي ظني أن لا علاقة لهذا فقط بوسائل التواصل وسهولة استخدام الجميع لها، بل في الأمر خللٌ بنيوي، يتعلق، غالبا، بإحساس جمعي مريع بالفشل على كل المستويات، ذلك أن الهزائم المتلاحقة التي أصابت العرب، وجديدها أخيرا هزيمة الربيع العربي، وسقوط كل الآمال والمشاريع التقدّمية، والإحساس بالعجز عن مجرّد الاقتراب من الخطوات التي تخطّها المجتمعات الأخرى نحو المستقبل، ثم عودة الخوف نتيجة إجرام الأنظمة وعنفها، مع انهيارات اقتصادية وأزمات معيشية وانكشاف البذخ الدي تعيش فيه الشرائح الثرية بقيمها المجتمعية الخاصة بها، كرّست أنواعا مركّبة من الغضب المترافق مع مظلوميةٍ تعبّر عن نفسها بلغة شديدة العنف، يحيلها أصحابها إلى المقدّس، حيث يجدون فيه مأمنا من المحاسبة، فيما لو تعرّضوا للمساءلة القانونية. والمرجّح أن هذا لن يتراجع قريبا، ذلك أن أزمات معيشية وبيئية أكثر ضررا قادمة لن تجد أمامها سوى مجتمعات منهكة ومتهالكة وفقيرة، سيكون الجمال الذي اعتادت أن تراه لدى غيرها فقط هو عدو مؤكّد وواضح، وكراهيته من فروض طاعة الله، كما يرون.