كعب أخيل وعنق شيرين
حين قامت الحرب بين الإغريق والطرواديين وفشل الإغريق في تحقيق الانتصار المطلوب، بدأوا البحث عن أخيل الذي سوف يحقّق لهم الانتصار، كما توقع لهم كاهن معروف، وحين كان أخيل طفلا تنبأ له أحدهم أنه سوف يُقتل في معركة. ولأجل منع ذلك، غطّسته والدته في نهر ستيكس الذي كان يعتقد أن ماءه يمنح الحماية ضد أسلحة الحروب. وفي أثناء تغطيسه في النهر، ظل كعبه الأيمن الذي كانت يد والدته تمسك به بعيدا عن الماء. وفي حرب طروادة، عرف باريس، عدو أخيل، هذه المعلومة عنه، فصوب سهمه المسموم نحو الكعب، ومات أخيل في الحال، بعد أن كان قد انتقم للإغريق، وحقق لهم انتصارات كبيرة. وظل كعب أخيل رمزا لنقطة الضعف القاتلة لدى البشر، النقطة التي يستغلها الأعداء للتسبب في أذية عدوهم.
وضعت شيرين أبو عاقلة الخوذة على رأسها، وارتدت سترتها الواقية من الرصاص (بديلتين عن مياه نهر ستيكس). حملت سلاحها الوحيد (ميكرفون نقل الحقيقة) وانطلقت لنقل ما يحدث في جنين، المدينة الفلسطينية المسلمة التي تتعرّض دائما لهجمات جيش الاحتلال الصهيوني. وقفت شيرين مع زملائها في منطقة بعيدة عن المعركة وليس فيها تبادل للرصاص، لكن قناص الاحتلال كان ينتظرها في مكانٍ ما ويراقب تحرّكها. التفتت شيرين قليلا وكشفت تلك المسافة (لم تغطس في ماء النهر من جسدها الأنثوي)، المسافة المكشوفة من العنق بين الخوذة والسترة الواقية، أسفل الأذن مباشرة، وصوّب نحو تلك المسافة طلقة واحدة كانت كافية لإسكات شيرين إلى الأبد. ما من عرّافٍ كان قد أخبر أهل شيرين في طفولتها أنها سوف تُقتل في معركة الحقيقة فيسعون إلى حمايتها، فزمن العرّافين الرّائين الصادقين انتهى مع انتهاء زمن الآلهة المؤنسنة. وشيرين، مثلنا جميعا، ابنة هذا الزمن النذل، الزمن الذي يُقتل فيه البشر لمجرّد قولهم حقيقة ما، الزمن الذي لا يعاقِب أحدٌ فيه القتلة المنفلتين من عقالهم، لا تعاقبهم عدالة الأرض ولا عدالة السماء.
عنق شيرين سوف يكون الرمز الجديد للعصر الحديث، بدلا من رمزية كعب أخيل، فإنْ كنا قد قرأنا عن أسطورة أخيل في الكتب والمروّيات، فإننا رأينا كيف استهدف القناص نقطة الضعف في جسد شيرين أبو عاقلة على الهواء مباشرة. استهدف باريس كعب أخيل لإضعاف قوة الاغريق، بينما استهدف قناص الاحتلال عنق شيرين لإعدام الحقيقة، فلطالما كانت شيرين صوت الحقيقة القوي والواضح، ولطالما كانت الشاهدة المعروفة والعلنية على جرائم الاحتلال، لم تتخفّ يوما ولم تتوارَ ولم يحمها أحد على عادة حماية شهود الإثبات، بل ظلت على ثبات قرارها في قول الحقيقة كل يوم، وهي تدرك أن "لجنة المحلفين" متواطئة مع القتلة. ومع ذلك لم تيأس ولم تتوقف، حتى اتخذ القاتل قرارا بإسكاتها إلى الأبد، مستغلا نقطة الضعف التي يعرفها فيها.
القاتل ذكي، هذا ما يثبته الزمن دائما، أقصد القاتل الممنهج والمنظّم. القاتل كمؤسسة ونظام، وليس كفرد أو شخص، يدرك هذا القاتل، (في حالة شيرين هو دولة الاحتلال، وفي حالة سورية هو النظام)، أن لضحاياه نقاط ضعف كثيرة، يعرف كيف يكشفها حين يشاء، كي تضيع جريمته وتتحوّل إلى هامش، بعد أن كانت متنا واضحا وصريحا، فقبل أن تُوارى الشهيدة الثرى، انشغل عربٌ بجواز الرحمة لها من عدمها. لم يعد موتها بهذه الطريقة النذلة والفاجرة مهماً، صار فقط مناسبة لإطلاق فتاوى دينية، واستعراض درجات التعصب والعنصرية والإيمان بمذاهب ودين تحوّل أتباعٌ له إلى مجموعات ضيقة الأفق، وتضيق معها رحمة الإله التي تسع كل شيء، بينما تفسح للقتلة المساحات الواسعة، كي يرتكبوا جرائم متتالية وكبيرة، وهم يعرفون أن ضحاياهم سوف يساعدونهم على مسح آثارها والتعمية عليها.
والحال أن أمثال شيرين أبو عاقلة، على قلتهم، موجودون وسيتابعون مسيرتها، وربما سيحاولون إخفاء مستقرّ السهم المسموم أو الرصاصة القاتلة في أجسادهم، لكن نقطة الضعف في الجسد العربي المسلم، تلك المعروفة للأعداء والقتلة جيدا، سوف تبقى طويلا تحمي القاتل من العقاب، وتمحو جريمته من الذاكرة الجمعية لشعوبنا، لصالح هراء مذهبي وطائفي وديني، استطاع أصحابه تحويل كل القضايا العامة العادلة لشعوبنا إلى قضايا فئوية وتافهة ومنحطّة، تشبه انحطاط الزمن الذي نعيش فيه، زمن القتلة والعصابات والمجرمين والآلهة الصامتة والعرّافين الكاذبين.