كلام قديم: هي أشياءُ لا تُشترى
يحلو لي أحياناً، وأنا أعيد ترتيب مقالاتي القديمة وأرشفتها، إعادة قراءتها ثانية في ضوء الظروف الجديدة التي تحيط بما تناولته فيها من قضايا، فأقارن بين الماضي والحاضر على صعيد الحدث نفسه وأبطاله، وعلى صعيد آرائي الشخصية أيضاً.
البارحة في خضم مهمتي بترتيب الأرشيف، وانتقاء بعض مقالاتي منه لإصدارها في كتاب جديد، توقفت عند مقالٍ لا أتذكر أنني نشرته بالفعل، وإن كان عنوانه من عناويني المعتادة: "لا أدري ما الذي كان يمكن أن يقوله شاعر مثل أمل دنقل الآن، بدلاً من صيحته التحذيرية الشهـيرة "لا تصالح .. ولو منحوك الذهب"، لو أنه نجا من ذلك الموت الذي حاصره بين جدران الغرفة ثمانية، فانتصر على تكوينه الجسدي النحيل الذي فارقته الروح تحت وطأة السرطان، لكنها ظلت معلقة في سماء الشعر النبيل، الشعر الجميل، الشعر الذي يقول ما لا يقدر على قوله سوى الشعراء؟!
كان أمل دنقل يمارس أقصى حالات تفرّده الإنساني، حين كتب تلك القصيدة التي سرعان ما تحوّلت إلى منشورٍ وزّعه العرب المخذولون من نشرات الأخبار التلفزيونية، وهي تنقل أخبار الصلح المنفرد الأول الذي وقّعه سياسيونا الأوائل وهم يتمشّون على أقل من مهلهم في تلك المسافة الممتدّة ما بين حدائق كامب ديفيد وحدائق البيت الأبيض، مدفوعين بنشوة الابتكار ودهشة المفاجأة أمام بريق عدسات التصوير العالمي لأول مرة.
لكن الأواخر من سياسيينا الملهمين في النهاية أتوا بما لم تستطع الأوائل، فبدلاً من المشي، صاروا يفضلون الهرولة، لا لأسباب صحّية، وفقاً لما يوصي به الأطباء وحسب، ولكن أيضاً، بل أولاً، لأن خير "السلام" عاجله. كما أن "سلام" اليوم من الأفضل ألا يؤجّل إلى الغد، فمن يضمن الظروف؟ ظروف الأعداء الذين لا يثبتون على رأي طبعاً، خصوصاً أن التاريخ علمنا، أعني علّم سياسيينا الملهمين، أن ما كان يقدّمه هؤلاء الأعداء من عروض اليوم سرعان ما يقلصونه إلى النصف في الغد ثم إلى الربع في اليوم الذي يليه ... وهكذا!
فلماذا نخسر بحجّة التأنّي ذلك "السلام" الذي صار تعويذة الزمن الجديد، حتى لو كسبنا السلامة؟ ماذا ستفيدنا السلامة المضمونة نتيجة للتأنّي في مقابل أنهار الحليب والعسل، بل والذهب أيضاً الـتي ستجري في صحراواتنا الكثيرة؟ لكن أمل دنقل كان يجيب عن الأسئلة الجديدة بمنطقه القديم، حتى وهو يحلق خلوداً خارج جدران غرفة المرض الأخيرة: "أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما؛ هل ترى؟".
كان الشاعر الذي استعار، ذات نكسةٍ غير مبرّرة، عيني زرقاء اليمامة، بينما يبكي بين يديها ليرى ما لا يراه الآخرون، يعرف أنه سيجيء ذلك اليوم الذي تصبح فيه نصيحته الغالية توزّع بشكل مجاني في الطرقات السرّية المنتشرة على امتداد الخريطة العربية من المحيط إلى الخليج، بدلاً من أن تُباع بجمل، كما يقضي العُرف السائد في مجال بيع هذا النوع من النصائح بالذات وشرائه، لكنه كان يحتمي بمحض الشعر، فـ"هي أشياء لا تُشترى…". على أية حال، حتى في حال عولمي جديد، تختفي فيه قرانا، ويتحوّل سكّانها إلى مجرّد عبيد يهرولون في خدمة سكان قرية بيل غيتس الكونية الواحدة.
في نهاية القراءة والرصد والمقارنة، تحصّلت على مزيد من الأسئلة في واقع لم تعد فيه عبارات أمل دنقل الشعرية الغاضبة تُجدي أو تصف المشهد الجديد بدقّة.
سأترك لكم مقارناتكم الخاصة بين ما كان وما وقع الآن.