كوابيسي ... يا كوابيسي الجميلة
أشعر أحياناً أنّ الموقف الذي يحدث الآن، والحوار الذي دار منذ قليل، سبق أن حدثا، وأنني عشتُهما، بالتّفاصيل والأطراف والكلمات والأثر، فأحتار: هل أواصل ما أفعله، كما يَجتهد ممثلٌ في إتقان دوره الذي يكرّره للمرّة العاشرة؟ أو أُوقف كل شيء، ما دام مكرّراً؟ وفي هذه الأحيان، أُشكّك في أنّنا ربما نعيش اللّحظات والمواقف نفسها، مرّة بعد أخرى، كأنّنا عالقون في ساعة حائطية. كما حدث لبطل فيلم "Groundhog day"، وهو أحد أفضل الأفلام التي تناولت العالقين في الزّمن. وأنّ الحياة تتعمّد تركنا نتخبّط في اعتقادنا الأخرق، أنّنا نفيقُ كلّ يوم على يوم جديد، وأحداثٍ جديدة.
ليس هذا كابوسا نفيق منه بعد قليل، حين نستيقظ من النوم. بل هو شعورٌ حقيقي، في مجال اليقظة التامة. ولكن ما الفرق بين النوم واليقظة، حين نرتبك بين الحقيقي والمتخيّل؟ يقول خبراء، حسب بعض المصادر، إن "التّحديق في القمر قبل النوم يساعد على التواصل مع ذواتنا. حيث يحكم القمر حدسنا وأحلامنا حسب التقاليد الصوفية. وإذا كان بإمكانك رؤية القمر من نافذتك، ركّز عليه مدّة لا تزيد عن عشر دقائق. والمكان المثالي لذلك هو غرفة نومك". بعدها سننام بهدوء، ونرى أحلاماً لطيفة، لا كوابيس تؤزّم حيرتنا الوجودية أكثر.
ما الذي يمكن أن يجمع بين القمر والنّوم، عدا أنّهما يتصادفان في الفترة اللّيلية من اليوم؟ لكن يبدو أنّ تأملَ القمرِ يُقوّي الغَراء الذي يضمُّ ذرّات عقلك، حتى لا تنفرط في كابوس، وتفيق من دونه. لكن ها نحنُ نكتشف كلّ يوم أعاجيب جديدة، وجديدها أخيرا حدث منذ أيّام. حين تكرّر ما يحدث كثيرا، وهو اكتشاف بعض الكلمات اللّذيذة، أو الطّريفة أو الشِّعرية الرّقيقة والعذبة، في بطن القاموس، فتترسّخ القناعة بأن العربية من أصعب اللّغات، وأغناها بالمترادفات والأسماء التي لا نهاية لها، لشيء واحد.
ما وجدته مصادفةً في القاموس، عن ترتيب مراحل النوم، كان كنزاً طريفاً من الجمال، لا يعرف عنه إلّا القليل من دارسي اللغة. بينما بقيّتنا تعرف النعاس والنوم والإغفاء والكرى ... بينما رتّبت لنا هذه اللّغة العجيبة مراحل النوم، درجة، درجة، مما نعرفه ومما لم نسمع به قبلاً.
أوّلُ النّوم: النُّعاس، وهو أن يحتاج الإنسانُ إلى النوم. ثمّ: الوَسَن وهو ثِقَل النُّعاس. ثمّ: التَّرْنيق، وهو مخالطةَ النُّعاسِ العين. ثُمَّ: الكَرى والغُمْضُ، وهو أن يكون الإنسان بين النَّائم واليقظان. ثمّ: التَّغْفِيقُ، وهو النّوم وأنت تسمع كلام القوم. ثمّ: الإغْفَاء، وهو النّوم الخفيف.
الأجملُ من وقع هذه الأسماء أنّها تتناول أجمل النّوم وألذّه. وهو الدُّخول في النوم، لا الغرق فيه أو الخروج منه. ولأُسند المقال على شيء، عدا حيرة التكرار القَهري، ولذّة النوم، أستعيد رواية غابرييل غارسيا ماركيز "ذكريات غانياتي الحزينات"، التي تحتفي بهؤلاء النّسوة المنبوذات. في ليلةٍ يقرّر فيها عجوز في التّسعين أن يُحيي ذاكرةً عنيفة من التجارب، مع نساء كانت الذّاكرة قد ابتلعتهُنّ. أولهنّ، العاهرات اللواتي كنّ المُخفّف الوحيد لوحدته، التي رفض أن يتخلّى عنها. فكان حين يستبدُّ به الحنين إلى جسد آخر، يأوي إلى دُور الهوى. لكنّه في ذلك يُدين المجتمع الذّكوري، الذي يستغلُّ فقر هؤلاء النّساء، وهو نفسُه "شاري الهوى" أيضاً.
علاقةُ الرواية بالكوابيس أنّ الكوابيس تنبش الذكريات أيضاً، فتُحيي ما كنا نظنه ميتاً، وتحلل علاقاتنا بالآخرين، وما مررنا به بشكلٍ لا يفعله أشطر محلل نفسي. وتضعنا في مواجهة أسوأ مخاوفنا، بما فيها التي لم نعلم بوجودها قبلا. كما أنّ أحداث الرواية تقع خلال نوم صبيّة، تم تخديرها في دار بغاء، ليستلقي كاتبٌ عجوزٌ إلى جانبها ويتذكّر، في كابوسٍ لن تعرف بحدوثه أبدا.
ليس لبطل ماركيز اسم، مثل رواية "الجميلات النائمات" لياسوناري كاواباتا التي تمنّى ماركيز بشدة، لو كتبها، فكتب في عالمها روايته هذه. كِلا العجوزين بطلي الرّوايتين لا اسمين لهما، فهما يتحدّثان بضمير المخاطب، الذي يصبح صدى حياة طويلة بلا أجوبة، فكلُّ الأجوبة أصداء. والأسئلةُ التي تطرحها الكوابيس بدورها أصداء. ونحن لسنا سوى ناقلي أصداءٍ، في هذا الكونِ الفسيح.