لأنّهم ليسوا أرقاماً
"لأنّهم ليسوا أرقاماً، هنا نحكي قصة الشهداء، حياتهم، ذكرياتهم، أحلامهم.. اكتبوا لنا وأرسلوا، لنحكي للعالم كلّه عن شهداء غزّة"... هكذا يُعرِّف حساب "شهداء غزّة" عن نفسه في منصَّة إكس، ليكون قصَّةً مُتحرّكةً بدأت ولكنّها لم تنته بعد. قصّةٌ تتناسل منها آلاف القصص والحكايات والصور والمقاطع والتفاصيل واليوميات لشهداء فلسطين في غزّة. قصّةٌ جماعيةٌ كبيرةٌ مُكوَّنةٌ من قصص فرديةٍ كبيرةٍ أيضاً، ومع كلّ طلقة رصاصٍ صهيونيةٍ غادرةٍ تكبر القصَّةُ ويرتفع الرقمُ فيزداد الوجعُ. بشر حقيقيون، حيوات واقعية، وأسماء وأحلام وطموحات وضحكات ودموع وعناوين وعلاقات وصغار وكبار... أصبحت كلّها في هذا الحساب، الذي يتضخَّم يوماً بعد يوم، لنكون، نحن الذين نعاني وطأةَ العجز والشعور بالخذلان، جزءاً منه. نحن أيضاً شهداءُ فيه وعليه وعليهم.
تعرَّفتُ إلى هذا الحساب للمرّة الأولى عندما استشهد أحدُ أكثر مؤسّسيه أهمّيةً، وهو الشاعر والكاتب رفعت العرعير، يوم 7 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أي بعدَ شهرَين على "طوفان الأقصى". يومها نعى الحساب الشهيد بتغريدةٍ مُؤثّرةٍ جاء فيها باللغة الإنكليزية: "في هذا اليوم، في هذه اللحظة، وببالغ الأسى والأسف والألم، نودّع أول من دعم وساعد هذه المنصّة، وأول من ترجم قصصَ الشهداء فيها. نودّع أول شخصٍ قدّم لنا النصيحة، وأول شخصٍ تابعنا. ونودّعه شهيداً. الشهيد الدكتور رفعت العرعير، أستاذ الأدب في الجامعة الإسلامية، وأحد أبرز وأهم معلّمي اللغة الإنكليزية في غزّة. ونتذكّر الآن ما قاله لنا بوضوح: (عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أنّهم استشهدوا على يد الاحتلال. ويجب أن نشير بوضوح إلى مرتكب الجريمة). والآن نقول للعالم أجمع إنّ الاحتلال قتل رفعت العرعير. وإنّ الاحتلال قتل وأباد عائلته أيضاً. وإنّ الاحتلال قتل جميع الشهداء... لقد قتل الاحتلال رفعت، لكنّه لن يقتل رسالته".
كنت كلما أُعلِن استشهادٌ جديدٌ باسم واضح المعالم هرعت إلى الحساب لأعرف القصّة. والقصصُ كثيرةٌ، والوجعُ أكثر منها، وهو أكثر بالتأكيد من مقدرة العاملين في الحساب على الكتابة والتوثيق وملاحقة التفاصيل. لكن، لأنّ الشهداء ليسوا أرقاماً، ولن يكونوا كذلك، بكثرتهم وباعتياد العالم كلّه أخبارَهم، ينبغي أن يستمرّ التوثيق بذات الاهتمام الأول، والحماسة القديمة. لقد قتل الاحتلال رفعت العرعير، وقتل رفاقه، وما زال مستمرّاً في رحلة التقتيل اليومي، ولكنّ الفكرةَ باقيةٌ، والشهداءُ أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون، ولعلّهم لا يحتاجون لمن يُوثّق قصصَهم بحُجَج إحيائها والتعرّف إلى دقائقها والعيش في خضمّها، بِعَدِّهم شهوداً على القرب، وعلى البعد أيضاً، منها. ونحن، إذ عايشنا هذه النكبة الفلسطينية المُتجدّدة في زمننا لا بدّ أن نكون جزءاً منها، شئنا أو أبينا، ولا بدّ للدور أن يكتمل.
40 ألفَ شهيدٍ منذ "طوفان الأقصى"، وكلّ شهيد منهم يستحقُّ أن يُدوَّن اسمه في فضاء الخلود البشري من أجل فلسطين، ومن أجل الإنسانية كلّها. فهناك في غزّة تبدو حكايات الشهداء وكأنّها حكايات البقاء، ويا لها من مفارقةٍ عجيبة أن تتعزَّز الحياة بفعل الموت! وأن تكون البداية في حافَّة النهاية! وأن يكون الشهيد هو الرمز الحقيقي للخلود! أمّا انتشار قصَّته فهو أسلوبه الباقي في المقاومة، واستمراره نحو النصر الآخر، النصر في الأرض وصولاً إلى التحرير، لا تحرير الأرض المُحتلَّة وحسب، ولكن تحرير البشر من فكرة الخوف من الموت أيضاً.