لافتات "الإمام الطيب"
ليس جديدا على شيخ الأزهر الشريف، الإمام أحمد الطيب، حديثه عن التجديد، وأهميته وضرورته ومعوقاته. ليس جديدا عليه أن يتحدث عن الفارق بين الثابت والمتغير في تراثنا. ليس جديدا أن ينتقد تقديس بعض الآراء الفقهية وتحوّلها إلى دين. سبق أن تحدّث الطيب مرارا عن هذه الأمور. وما شهدته الأيام الماضية من ربط بين حديثه في برنامجه "الإمام الطيب" وتصريحات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الموضوع نفسه، ليس سوى "مغالطة"، فقد سبقت حلقات الطيب تصريحات بن سلمان، كما أن برنامج الطيب، منذ اليوم الأول في شهر رمضان، يتحدّث عن الخطاب الديني، ويتناوله من جوانب مختلفة.
تحدث الطيب، في حلقات سابقة عن حوار بن سلمان، أن المشكلة ليست في الفقه أو الشريعة، إنما في الكسل والعجز عن استثمار المخزون المعرفي للتراث. وخصّص حلقاتٍ للحديث عن يسر الشريعة ورفع الحرج والمشقة، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، ومباحث الأمر والنهي في التراث الأصولي التي تفيد بأنه ليس كل أمر أو نهي ورد في القرآن والسنة جاء على سبيل الوجوب والحرمة، وأن الغفلة عن ذلك ملأت حياة الناس بمحرّماتٍ لا وجود لها، وأن في ذلك افتراء على الشريعة وفوضى نتجت عن اقتحام ذلك "الفقه المعوّج" إلى حياتنا الاجتماعية. وبالمناسبة: الطيب كتب الكلام نفسه في بحث قديم، اشتبك فيه مع مشروع حسن حنفي "التراث والتجديد"، والجديد، حقا، هو تصريحات بن سلمان وليس كلام الطيب.
جاءت تصريحات الطيب فرصة لفريقين بائسين، لتبادل وصلات الردح الإلكتروني حول المسؤول عن التراجع والتخلف، هل هو تراث قبيلتنا أم استبداد قبيلتكم، وتحميل عبدة التراث المسؤولية لنظرائهم من عبدة المستبدّين، والعكس. وهو ما عطل الحوار الجاد في الموضوع، كما هي العادة، لصالح انتصاراتٍ وهميةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، والسؤال: هل تحمل تصريحات الطيب أي إضافةٍ حقيقيةٍ للموضوع محلّ النقاش؟ هل تحقّق التجديد المطلوب بالحديث عن أهميته؟ هل تحقق استثمار المخزون المعرفي للتراث بامتداحه؟ هل تجاوزنا الكسل الفكري بالتظاهر ضده؟ وهل يمتلك الأزهر إرادةً حقيقيةً في تحويل لافتة التجديد إلى خطة عمل؟ هل لديهم القدرة على مواجهة تيارات الهوس الديني داخل الأزهر نفسه؟ هل لديهم القدرة على مواجهة تيارات عبادة التراث داخل الأزهر نفسه؟ هل لديهم القدرة والشجاعة على تجاوز الحاجز النفسي بينهم وبين آراء القدماء وزماناتهم المباركة وقرونهم المفضّلة؟
بعد ثورة يناير، تقدّم محمد عمارة، رحمه الله، باقتراح لتشكيل لجنة تعمل على "كتاب مرجعي" في الحديث الشريف، يتجاوز صحيحي البخاري ومسلم، ويستأنف جهود السابقين في نقد الأسانيد والمتون، ويستبعد المروّيات الخرافية التي لا تنسجم مع صحيح المنقول (القرآن والسنة المتواترة)، أو صريح المعقول، وهي فكرة عمارة التي كتبها في مواضع مختلفة من كتبه. وافق الشيخ الطيب، لكن كيف كانت الموافقة؟ شكّل الشيخ الطيب لجنةً من أكثر علماء الحديث تزمّتا لتنفيذ المشروع، وهو ما اعتبره عمارة عبثيا، وردّ في وضوح: "نريد لجنة لحل المشكلة، وهؤلاء تحديدا هم المشكلة"... اقتراح عمارة واحد من عشرات الاقتراحات التي يحتفظ بها الإمام في "ثلاجة الأزهر"، ولا يبدي اعتراضا مبدئيا عليها، بل يوافق ويتبنّى ويتحمّس، ثم يشكّل لجانا من شأنها القضاء على أي فكرةٍ في مهدها، وينتهي الأمر قبل أن يبدأ!
أحمل تقديرا كبيرا للشيخ الطيب، ومعركته للحفاظ على استقلاليته، كما أحمل تعاطفا حقيقيا مع ما يتعرّض له من حملة شديدة القذارة لتجنيده أو استبداله بـ "مخبر" يرتدي عمامة. وأعرف أن "التجديد" في مؤسسة تقليدية وبيروقراطية، مثل الأزهر، ليس "قرارا"، وأن حجم الضغوط من داخل المؤسسة أكبر بكثير من خارجها، لكنني أتمنى أن يتجاوز الشيخ رفع اللافتة إلى التبشير بمشروع حقيقي له معالم وخطة وشخوص مؤهلون، لن يعدمهم الشيخ في الأزهر وغيره من المؤسسات. وفي تقديري أن هذا هو السبيل الوحيد لخسارة مشرّفة لكرسيه.