لا تخبري بابا
أصبح البيت أضيق مما كان، وأوامر الأم اختلفت، لم تعد تطلب من شقيقها الأكبر أن يصحبها إلى الدكان القريب من البيت، ولم تعد تطلب منها أن تنزل درجاتٍ معدودةً، وتذهب إلى بيت أحد الأقارب، لكي تلهو مع الصغار ممن هم في سنها، أصبح خوف أمها ظاهراً وباطناً، والممنوعات في سني عمرها القليلة تزداد، ونظرة الأب اختلفت، فكلما نظر إليها لمحت دمعة فارّة يمسحها بسرعة.
تعرف جيداً أنّ الأم لم تكن مرحبة كثيراً بأنّها قد جاءت إلى الدنيا أنثى. تعرف ذلك، لأنّه يحدُث دوماً منذ قديم الزمن، يحدُث أن تفرح الأم حين تضع مولوداً ذكراً، وتشد حيلها، وترفع رأسها، وتقوم رغم ألمها، لكي يراها أهل البيت جميعاً، وهم أهل زوجها الذين تعيش معهم في غرفةٍ، لكي يعرفوا أنّها قد أصبحت "أم الولد". لكنّها حين تضع أنثى، فهي تضع نفسها في فراشها المنزوي، وتنسحب منه في هدوء؛ لكي تصل إلى الحمام ثم تعود، وكأنّها تداري خزيها أو تريد أن ينسى من حولها أنّها قد جاءت بأنثى جديدة للعائلة التي تريد ذكوراً لا يجلبون العار، وسيكبرون لكي يدرّوا المال بعمل مبكر ينسحبون إليه من مدارسهم.
حاولت الأم أن ترحّب بها وأحبّتها، وصفّفت لها شعرها بعناية منذ صغرها، وقبل أن تقسو شعيراتها. أمسكت بالشعيرات الهشّة وصففتها، وغنّت وترنّمت من أجلها، ودعت لها كثيراً، وتمنّت أن تكبر، لكي تربّي لها صبياناً قادمين. يا للعجب من هذه المرأة التي ترى البنت وسيلةً لا غاية، تريدها وسيلةً لكي تعينها على تربية جيشٍ من الذكور، حتى أنّ المثل الشعبي قد جاء على لسان إحدى الجدّات التي أرادت مواساة النساء اللواتي يضعن البنت قبل الولد، فقلن "مسعدة زمانها من تأتي ببناتها قبل صبيانها". والحقيقة أنّ هذا المثل يواسي ويشجع ويمهد ويكرس مفهوماً واحداً، أنّ وجود البنت في البيت ما هو إلّا لتثبيت وجود الولد.
احتملت هذا كله، حتى وأمها تطلب منها ألّا تضرب أخاها الصغير، لأنّه حطّم لعبتها، وحتى وهي تحثّها على طاعة أخيها الآخر، وأن تأتي له بكوب من الماء، رضيت بهذا القضاء، حتى جاء اليوم الذي لم تعد تعرف ما الذي تغيّر، كلّهم ينظرون إليها نظرة لا تفهم المقصد منها، لكنّها تحمل تساؤلاً: وماذا بعد؟
تذكّرت ذلك الألم الرهيب، لا تدري كيف سحبها عمّها من ذراعها، وهو يطلب من شقيقها أن يذهب لكي يُحضر له قنينة من الماء لكي يشرب، حيث ساد الهرج والمرج في الحارة، بسبب احتفال أحد الجيران بزواج ابنه، وها هو ذا الجمع منشغلٌ بمتابعة الدبكة الشعبية وصواني الطعام القادمة من بيت العريس. ولذلك لم يلتفت أحد إلى العمّ فارع الطول الذي سحب بيده تلك الطفلة الرقيقة، وحتى لو التفت أحدٌ فلن يعترض أو يستغرب فهي ابنة أخيه. وهكذا غاب بها، وحين عادت إلى البيت لم تعد كما كانت.
خيط من الدم والنار وألم لا يحتمل، وأسئلة متدافعة كبيرة لعقل صغير، وأصوات منكرة ومتلاحقة بأسئلة أيضاً لا تجد لها إجابة، لا تفهم شيئاً مما حدث، سوى أنّ سبب كلّ ما تمر به هو شقيق والدها، عمّها الذي نادته ذات يوم "بابا". واليوم يسحبها من ذراعها ويطلب منها في لهجة تهديدٍ "لا تخبري بابا". ربما أراد أن يدفن السرّ حتى تكبر، فيكون العار أكبر، وينكشف المستور في ليلة زفافها في أرضٍ تقدّس طقوس ليلة الزفاف، وتطلق الزغاريد والأعيرة النارية في الهواء؛ احتفاءً برجولة العريس وشرف العروس. وربما أراد أن تخبره اليوم لثأر بينهما، وكأنّه يقول له انتقمت منك في أعزّ ما تملك، لا أحد يعرف الرسالة، لكنّ البنت الصغيرة تعرف أنّها حين عادت إلى البيت لم تعد إليه كما خرجت منه إطلاقًا.