لا شيء سيتغيّر
آرون بوشنل أميركي في الخامسة والعشرين من عمره يعمل في القوات العسكرية الجوية الأميركية، أحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجاً على الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة، واحتجاجاً على الانحياز الأميركي الكامل لهذه الإبادة والمشاركة فيها عبر دعم الصهاينة بالسلاح والعتاد والمال. قرّر آرون أخيراً "الاحتجاج العنفي" كما سمّاه، بعد أيام طويلة من الاحتجاج السلمي أمام السفارة، رافعاً شعار "أوقفوا الإبادة". تحوّلت السلمية التي لم تكترث لها الحكومة الأميركية إلى تضحية بالنفس، آملاً أن تُحدث تضحيتُه فرقاً في السياسة الأميركية تجاه حرب الإبادة على غزّة. أحرق آرون بوشنل نفسه وهو يصرُخ مطالباً بالحرية لفلسطين (free Palestine)، آملاً أن النار التي أضرمها في جسده الشاب تصل إلى العقل المدمّر الذي يدير آلة الحرب في العالم فتحرقه. وللأسف، لم تحرّك تضحية آرون بوشنل وحرقُه نفسه ساكناً في موقف الحكومة الأميركية التي عبّرت عن "عميق" مشاعرها لأسرة الشاب الذي حرق نفسَه في بثٍّ مباشر عبر وسائل التواصل، محاكياً موت الفلسطينيين على الهواء مباشرة أمام أعين العالم ومسمعه.
شبّه كثرٌ من المغرّدين العرب بوشنل بالبوعزيزي التونسي الذي كانت نيران جسده الشعلة التي أطلقت الربيع العربي، أو ما كان يُفترض أن يكون ربيعاً عربياً قبل أن يتحوّل إلى كارثة كبيرة حلّت على بلادنا، بتواطؤ الإسلام السياسي العربي الذي اتضح أن أجندته السياسية لا تمتُّ للوطنية بصلة، وبتواطؤ المؤسّسة العسكرية العربية، والتي يمكن تسميتها النظم العميقة الحاكمة لبلداننا، والتي وجدت في هذه البلاد بلحظة تاريخية (تغييرية) تزامنت مع إنشاء دولة إسرائيل، لتغرق بلادُنا وشعوبنا بعدها في سلسلةٍ من الهزائم المتواصلة لن تكون هزيمة الربيع العربي آخرها، وبتواطؤ من الحكومات العربية والغربية والمجتمع الإقليمي والدولي، والذي اكتشف أن أي تغييرٍ إيجابي في النظم السياسية سوف ينعكس تغييراً إيجابياً في المجتمعات العربية التي جرى الاشتغال بدأب وبجهد جبار على إبقائها مجتمعاتٍ فاشلة ومتخلفة، وينتمي أفرادها إلى الهويات ما قبل الوطنية والهويات الفئوية التي تنظر إلى الهوية الإنسانية بوصفها خطراً يجب محاربته عبر فاشية القومية أو فاشية الدين أو المذهب.
هكذا كان جسد محمد البوعزيزي المحترق أول ضحيّة في سلسلة طويلة جداً من ضحايا الربيع العربي من الذين فقدوا أرواحهم أو أوطانهم أو رزقهم أو كرامتهم أو مستقبلهم أو حاضرهم أو ماضيهم، ممن أصبحوا في العراء بكل ما لهذه الكلمة من معنى، العراء النفسي والمادي والروحي، العراء الذي أعادنا، نحن الشعوب العربية، إلى مربّع الخوف الذي ينتج المزيد من الجهل والتخلف والشعور بعدم الانتماء، والتعلق أكثر بالهويات الفئوية أو بالزعماء، وعدم الاكتراث بالقضايا الوطنية الكبرى والتعلق بالتوافه، وبحلم وحيد هو الهرب نحو أمكنةٍ ومجتمعاتٍ فيها القليل من العدالة الإنسانية، بحيث يصبح الخلاص الفردي الحل الوحيد المتاح أمامنا، بعد أن أصبح الحلم بالخلاص الجمعي شبيهاً بكابوسٍ طويلٍ لا يريد أن ينتهي، أو بالأصح ثمّة من يزيد في آثاره السلبية علينا يومياً، بحيث أصبح اعتياداً له كما لو أنه أماننا الراهن الذي تبدو معه أية محاولة للتغيير خطراً ينبغي الوقوف في وجهه.
التعاطف العربي الشعبي العاجز مع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة هو انعكاس لموقف الأنظمة العربية المخجل والمتواطئ مع الحرب ضد الفلسطينيين، يشبه التعاطف العاجز وموقف الأنظمة من حرب الإبادة ضد السوريين في العقد الماضي، ويشبه الموقف من حروب السودان واليمن وليبيا. ما من موقفٍ شجاعٍ ومؤثّرٍ قام به عربي واحد خلال أشهر الحرب على غزّة، لا بسبب خفوت التعاطف مع قضايانا الوطنية فقط، بل بسبب الإحساس العام بعدم الجدوى، حتى لو الأنظمة لم تعاقب صاحب الموقف أو تعتقله أو تنكّل بعائلته، لكن هناك إحساساً عاماً وعارماً بأن أي موقفٍ فرديٍّ مغاير سوف يدفع صاحبُه ثمنه، طبعاً مع معرفة مسبقة بأن لا شيء يمكنه أن يُحدِث فرقاً في بلادٍ ترى شعوبها رخيصة الثمن، فإذا كان الساسة الأميركيون لم يتوقفوا للتفكير في موقفهم من الحرب، إثر حرق بوشنل نفسه، وهي الحكومة التي ترى في مواطنيها ثرواتٍ كبيرة، فهل ستكترث الأنظمة العربية بموقفٍ شبيهٍ بهذا؟