لسن أيقوناتٍ ولا قدّيسات
منذ أسطورة الخلق والذاكرة البشرية تلقي باللائمة على المرأة/ حواء وتحمّلها مسؤولية المعاناة والعذاب البشريين، فلولا إغواؤها آدم بأكل التفاحة المحرّمة/ الخطيئة لما طردهما الخالق من جنّته، ولما أنجبا هابيل وأخته التوأم في الأرض، ليرفض قابيل الزواج منها ويطالب بالزواج من توأمه ويتمرّد على رغبة والده ويرفض الخالق قرابينه فيقرّر قتل أخيه انتقاماً، وتبدأ معه ذاكرة بشرية جمعية تنتقل عبر الزمن، معيدةً أسباب الموت والعذاب البشري إلى المرأة: حوّاء المغوية الأولى وأم هابيل وقابيل وتوأميهما من البنات.
أنجبت حوّاء من بطنها ذاته الأضداد كلها: الذكر والأنثى، الخير والشر، الطاعة والتمرّد، حوّاء الأسطورة هي أم البشرية بكل ما تحمله هذه البشرية من تناقضات، دورها هو الرئيس في الأسطورة، هي من فعلت كل شيء، لم يكن لآدم سوى دور زارع البذور في التربة الخصبة. لهذا، لا يحمل آدم مسؤولية الخطايا، أما كونه ضالّاً وغاوياً فهذا يتحمّل مسؤوليته إبليس الذي زيّن لحواء أكل التفاحة وأغوت آدم ليفعل السلوك ذاته. هكذا تقترح أسطورة الخلق أن حواء/ المرأة تتبع إبليس/ الشر، بينما آدم/ الرجل بريء من هذا الانحياز، لهذا يحضُر آدم في قصة الخلق والأساطير الدينية حضوراً كاملاً باسمه وصفاته، بينما نادراً ما يحضُر اسم حوّاء في الذاكرة الجمعية البشرية التي تأسّست على الأساطير والأديان.
تشكّل اللاوعي البشري الجمعي من ذلك الانحياز، وحملته المرأة عبر التاريخ في ذاكرتها الجينية، ظلّت دائماً وأبداً تتعامل مع جسدها بوصفه حاملاً للخطيئة، وعليها التكفير عن ذلك بقبولها الالتحاق بالذكر، وقبول فرضية خلقها من ضلعه، وهي الفرضية التي ما زال الرجل يصدّقها، متجاهلاً أن رحمها هو من تناسلت منه البشرية، فإذا كانت حوّاء خلقت من ضلع آدم لأول مرة فإن رحمها هو من تولّى هذه المسؤولية الشاقّة والمؤلمة والعسيرة والفريدة منذ تلك اللحظة وعلى مدى ملايين السنين. رحمها هو من تولّى إنقاذ البشرية. كانت أسطورة الخلق تتكئ على الخيال لفهم ما حدث في بداية التكوين. وعليه، يمكن لخيالنا الآن أن يرى في سفينة نوح الرحم الأنثوي الذي حمل الذكر والأنثى من كل نوع، والذي أنقذ البشرية من الطوفان والفناء.
لكن الخيال والحقيقة أمران متنافران، والحقيقة تقول إن الإنسان في مرحلة تطوّره وإدراكه ذاته ومحيطه، ثم اكتشافه الكلمة، طرح كل الأسئلة المحيّرة، وليجيب عنها اخترع الأساطير، كونها الأكثر سهولةً في الفهم. ومع الزمن، ترسّخت تلك الأساطير، وشكّلت النسبة الكبرى من اللاوعي الجمعي البشري الذي بدوره يساهم، إلى حد كبير، في تشكيل الوعي الفردي.
يتحدّث مختصون نفسيون عن أن أكثر من 70% من الاضطرابات النفسية التي يعاني منها غالبية البشر يعود منشؤها إلى العلاقة المضطربة مع الأهل، ومع الأم، على وجه التحديد، في الطفولة والمراهقة، هذا الاضطراب في العلاقة تسبّبه ذاكرة نسوية بالغة القدم عن غضبٍ لم يُتح له أن ينفجر، وعن رغباتٍ كثيرةٍ مكبوتةٍ ومدفونة، وعن تمييز طويل كان سبباً في الإحساس بدونيةٍ مجتمعيةٍ، وبكثير من عدم تقدير الذات وعدم الإيمان باستحقاقها الأفضل. ستظهر تلك الذاكرة في الحدث النسوي الأهم: الأمومة، وهي الفارق الأكثر إيلاماً في جسد المرأة وفي وعيها وقد تحوّلت إلى أم، وستنقل الأم ذاكرتها لبناتها، ليكنّ أمهات بالجينات نفسها التي سينقلنها إلى بناتهن اللاتي سينقلنها أيضاً إلى بناتهن، بينما ستنقل الأمهات إلى الذكور من الأبناء ذاكرتها عن استحقاق الذكر كل ما يُتاح له في الحياة. وبدوره سوف يحمل ذلك حين يكبُر، ممارساً أحقيّته في احتلال المرتبة المجتمعية الأولى. هكذا سوف تنشأ أجيالٌ تورّث بعضها بعضاً الذاكرة الجينية نفسها، المحمّلة باضطراباتٍ ذات مرجعية واحدة بالغة القدم والتأصّل والعمق في البشرية عموماً.
كلّ ما سبق يدركه بشرٌ كثيرون. ولسبب أو لآخر، يتعامل الجميع مع الأم بوصفها قدّيسة أو منزّهة عن الخطأ أو أيقونة، مع أن الأمهات أنجبن مجرمين وقتلة وطغاة ومغتصبين ... إلخ، مثلما أنجبن طيّبين وخيرين ورحماء وعطوفين ... إلخ. تماماً مثل الأم الأولى حوّاء التي أنجبت القاتل والمقتول معاً. تلك الهالة التي تُحاط بها الأم والتي تعزّزها الديانات السماوية هي ليست سوى محاولة لنسيان تراث بشري بالغ القدم في التعامل مع الأنثى/ الأم. ليس لتصحيح ذلك التراث، بل لتناسيه وتجاهله، إذ في التجاهل يتم تخدير الذاكرة والضمير معاً.