لماذا نخضع ونطيع؟
لماذا نخضع ونطيع، عندما ندرك أنّ من يُخضِعنا ويطلب طاعتنا ليس أكثر من مُستبدٍّ يُسيء معاملتَنا، ويُملي علينا أوامر تتعارض وضمائرنا؟ قد يُقال سؤالٌ ساذجٌ يطرحه من لم يَخبَر عسف الأنظمة الشمولية وبطشها. لكن، ثمّة فلاسفة ومُحلّلون ومُفكّرون طرحوه، مسائلين أولئك الذين يشكّلون اليد الضاربة، العاملة في آلة القتل.
في كتابها الذي يحمل عنوان "أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ" (1963)، الذي غطّت فيه محاكمة إحدى الشخصيات المحورية الرئيسة في تنفيذ "الحلّ النهائي" في النظام النازي، غيّرت الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة أرندت نظرتها الأخلاقية الآنفة إلى الشرّ باعتباره "شرّاً جذرياً" (إيمانويل كانط) وثيق الصلة بطبيعة البشر، لتبتكر مفهوماً آخرَ جديداً هو "تفاهة الشرّ" أو عاديّته، فقد رأت في أيخمان "موظّفاً سفّاحاً"، صحيح... إنّما مُجرَّد موظّف عمل في الآلة البيروقراطية النازية ليحسّن وضعه، فنفّذ الأوامر الموجّهة إليه من دون مساءلة أو تفكير. وهنا بالتحديد تكمن المُشكلة، بحسب أرندت، أي في التصرّف بدموية ووحشية وعدم التفكير، طالما أنّ المطلوب منه هو الطاعة والتنفيذ.
بعدها بقليل، وتحت تأثير ما كشفته المحاكمة أنّ أكثر الأفعال بربرية ووحشية يرتكبها بشر عاديون بذريعة أنّهم إنّما يُنفّذون الأوامر ويُؤدّون واجبهم، جاء اختبار ميلغرام (1961) لقياس قابلية الأشخاص العاديين للرضوخ لسلطةٍ ما، تطالبهم بارتكاب ما يُعارِض مبادئهم، مثل تعذيب شخصٍ آخر لا علاقة لهم به، تبعاً لتوجيهات جهة مسؤولة. في نهاية المطاف، أظهر الاختبار نسبةً مُخيفةً بلغت 65% من المتطوّعين الذين قبلوا إرسال شحناتٍ كهربائيةً صاعقة إلى متطوّعين آخرين (ممثّلين)، كانوا يعطون إجاباتٍ خاطئة عن أسئلة مطروحة، وصولاً إلى استعدادهم لقتل أبرياء في الغرفة المجاورة (!)
لا أحد منّا يُحبّ أن يرى نفسه على هذه الشاكلة، لكنّ سؤال الشرّ الكامن في الإنسان يُقلقنا جميعاً منذ أمد بعيد. والقاتل الأول في التاريخ البشري، بحسب الأديان التوحيدية، هو أخٌ قتل ابن أبيه لأنّ أُضحية الأخير أرضت الربّ أكثر مما فعلت أُضحيتُه هو، ومعناه أنّه قتله بلا سبب فعليّ، أو لأنّ الربّ دفعه إلى ذلك بأن خلق الحسد في قلبه حين ميّز بينهما. وقد يكون أول من طرح هذا السؤال المُؤرّق فعلاً، بشكل جدّي ومغاير، شابّ فرنسي في الثامنة عشرة من عمره، نشر عملاً بعنوان "خطاب العبودية الطوعيّة" (1576)، ويُدعى إتيان دو لابويسي، وقد شكّل كتابه، وما زال، مرجعاً مهمّاً وأساسياً في الفلسفة السياسية التي تتناول هذا الشأن. فمن خلال قلب مفاهيم الهيمنة والعبودية، إذ يسعى الطاغية تقليدياً إلى السيطرة على الناس واستعبادهم، يرى لابويسي أنّ المواطنين هم من يُجرّدون أنفسهم من حرّيتهم ليمنحوها للطغاة: "هو الشعب من يَستعبِد نفسه"، يكفي أن "يتوقّف عن خدمة السيد والخضوع له، ليعود حرّاً". لقد أصبح مفهوم العبودية الطوعيّة أحد الأسئلة المركزية في الفلسفة السياسية، كما أنّه ألهم عدة فلاسفة، من بينهم هنري برغسون وسيمون ويل وجيل دولوز، وقد اعتُبر لابويسي الذي تُوفّي شاباً، أحد أوائل منظّري الاستلاب وطارحي السؤال: لماذا لا تتمرّد الأكثرية على الطغاة؟
يقول: "أمرٌ مثير للدهشة حقاً... رؤية الملايين والملايين من الرجال، مُستعبَدين بشكل بائس، خاضعين برؤوس مطأطأة لنير لا يحتمل، ليس لأنّهم مُجبرون من قوّة كبرى، ولكن لأنّهم مفتونون باسم واحد فقط ينبغي ألّا يخافوه، طالما أنّه وحيد، أو أن يعتزّوا به، لأنّه غير إنساني وقاسٍ جدّاً حيالهم جميعاً... ومع ذلك، ليس لدى هذا السيد سوى عينين ويدين وجسد... فمن أين يحصل على كلّ تلك العيون التي تتجسّس عليك، إن لم يكن منك؟ كيف يكون لديه كل تلك الأيدي لضربك، إن لم يستعرها منك؟ أليست الأقدام التي يدوس بها مدنك لك؟... أيّ سوء يمكن أن يرتكبه في حقّك إن لم تكن أنت اللصّ الذي ينهبك، شريك القاتل الذي يقتلك، وخائن نفسك؟".