لمّا فقدت الديمقراطية في تونس فضيلة الدفاع عنها
لا يزال انقلاب تونس يثير حيرة مختصّين عديدين في التحولات الديمقراطية والظاهرة الانقلابية: كيف أمكن تفكيك تجربة الانتقال الديمقراطي بتلك البساطة، ومن دون أن تثير ردود أفعال جريئة وذات حجم يليق بنخبٍ طالما تغنّت بالاستثناء التونسي؟ لا يزال بعضهم يستحضر ضمنياً اللقطات المذهلة التي تداولها الإعلام العالمي، حين استلقى أتراكٌ تحت دبابات عساكر الانقلاب، رفضاً لمغامرتهم العبثية المتعدّية على الديمقراطية. مقابل هذا، ظل الإعلام التونسي ينقل صورة العسكري الذي أقفل البرلمان، وهو يحول دون دخول رئيسه راشد الغنوشي مع قلة من أنصاره، ثم انسحب الجميع بعد ساعات. وما زالت أسئلة عديدة تُطرح منذ تلك الليلة. ما زالت تتراكم، كلما طوى الانقلاب مرحلةً، من دون أن نقدّم إجابات مقنعة، فهل كان حتى هذا الانقلاب استثناءً تونسياً؟
الأفضل حتى نعثر على مداخل إجابة ممكنة، أن نعود إلى فترة ما قبل الثورة، وتحديداً قبيل سقوط نظام بن علي. ففي لحظة انكسار القوى المناهضة له، التي دافعت عن الديمقراطية أكثر من عقدين، وحينما خارت قواها تقريباً يائسةً من التغيير، حدثت الثورة خلافاً لكل السيناريوهات، فلا أحد توقعها، فلم تستعد النخب لهذه المرحلة، وغاب أي حوار أو تنسيق بينها. بعد إخفاق سلسلة إضرابات الجوع التي خاضتها هيئة 18 أكتوبر التي جمعت، لأول مرة، الإسلاميين والعلمانيين واليسار، وبعد أقل من سنة من تجديد البيعة للرئيس بن علي في انتخابات 2009، اندلعت الثورة كالنار في الهشيم.
تكسّرت كل الانتفاضات الاجتماعية، لأن المناخ السياسي لم يكن مواتياً للذهاب بها إلى أبعد مداها
كانت "الخميرة" ناضجةً، لأسبابٍ تعود الى عقود بعيدة. ومع ذلك، لم تشهد تونس، على امتداد تلك السنة، أي تحرّك احتجاجي كبير. ولعلنا نذكر احتجاجات مدينة بنقردان الحدودية، على خلفية غلق المعبر مع ليبيا، ومحاصرة تجارة الخط الحدودي التي كانت قد انتهت هناك. وظلت أيضاً قبلها انتفاضة الحوض المنجمي محصورة في مجالها الترابي والاجتماعي، المتعلق بشركة الفوسفات هناك واستحقاقات المنطقة. تكسّرت كل تلك الانتفاضات الاجتماعية، لأن المناخ السياسي لم يكن مواتياً للذهاب بها إلى أبعد مداها. تؤكد هذه التحرّكات غياب قضية سياسية وطنية عادلة (الديمقرطية)، يلتف حولها الجميع من نخب اجتماعية وسياسية واقتصادية. لم تكن تلك التحرّكات قادرة على تعبئة الجميع واختراق انتماءاتهم الأفقية. حتى اندلعت الثورة، وحرّكت شارعاً غاضباً، من دون أن يكون لتلك النخب دور مباشر في توجيه تلك الثورة التي كانت بلا رؤوس (كما يقول آصف بيات)، فقط أفواه وحناجر تصدح برفض الحرمان، خصوصاً في أيامها الأولى.
على إثر رحيل النظام، لم تكن النخب السياسية مهيّأة لأن تتمثل الديمقراطية قيمة وثقافة وروحاً، وذهبت مباشرة إلى صناديق الاقتراع من دون حوار حقيقي، ومن دون إجماع على الحد الأدنى من هذه الديمقراطية. تحولنا، بسرعة ضوئية، من نظام مغلق استبدادي إلى "ديمقراطية" مشاعة "ذليلة" لا أحد يقدّرها حقّ تقديرها. لم يستحضر المتصدّرون للمشهد قيمة الثورة التي أهدت إليهم ديمقراطية مبخوسة، إلى حدّ أن الناس نقموا على "ثورة صاحب العربة".
جرت الخصومات والصراعات بين السياسيين والفئات الواسعة التي ناصرت الديمقراطية مبكّراً، أملاً في تغيير واقعها الاجتماعي والاقتصادي
يتحرّج بعض التونسيين من أن تكون ثورتهم قد فجّرها شاب محدود الكفاءات والمواهب. طُمسَت سرديات أخرى مشرقة عن شباب عاطل من العمل، انتصر للثورة واستشهد من أجل أحلامها. بدأت آلة الدولة العميقة والنظام القديم في ترذيل الجميع: شهداء ومناضلين حقوقيين وحاكمين وغيرهم، حتى كادت السياسة أن تكون وحشاً خرافياً يلتهم كل شيء. كانت الحالة السياسية التي سبقت الثورة متخلفةً عن اللحظة الاجتماعية، كما يقول الماركسيون. والنتيجة أن الفرقاء دخلوا من دون أدنى تنسيق أو تخطيط. لقد رحّلوا خلافاتهم وخصوماتهم إلى ما بعد سقوط النظام، وظلوا يتحيّنون الفرصة، سواء من حكم منهم أو من عارض للإيقاع بخصمه، وضمن منطق الغلبة. كان الفوز الانتخابي يُعاش وفق هذه الثقافة. شعر بعضُهم بأن ثمّة إذلالاً ديمقرطياً يتوسع لينال من الجميع. ومرّت العشرية والفرقاء يتنازعون، ولم يتركوا خطّاً أحمر إلا تجاوزوه: استباح بعضهم أعراض بعض، واستعملوا كل الأسلحة التي تخطر على البال: الإعلام والمال وسكاكين الليل الدفين.
السردية الرائجة حالياً مسطّحة وهزيلة، حين تبرّر للانقلاب بكل تلك الصور المشيطنة للسياسيين، مستغلةً ما حدث في أروقة البرلمان أو خارجه أحياناً من مشاحنات بأنها ترذيل مقصود، غير أن المرء لا يمكن مطلقاً أن ينكر حالة العبث المنفر التي كانت سائدة بين الفرقاء. يشعر المرء أحياناً بأن لا شيء يجمع هؤلاء، لا الديمقراطية ولا الوطن معاً.
جرت كل هذه الخصومات والصراعات بين السياسيين والفئات الواسعة التي ناصرت الديمقراطية مبكّراً، أملاً في تغيير واقعها الاجتماعي والاقتصادي، ترى نفسها مطرودة من الانتقال الديمقراطي وغير مرحّب بها. كان يمكن الرخاء الاقتصادي أن يعزّز أنصار الديمقراطية، غير أن ذلك لم يقع مطلقاً. نسب العزوف المرتفعة التي سجّلت، من انتخابات إلى أخرى، أوجدت جيشاً من أغلبية صامتة عاجزة عن الدفاع عن الديمقراطية، بل غير معنية بها أصلاً، شأن لا يعنيها. هل نحن أمام حالة من كراهية الديمقراطية، على حد قول الفرنسي جاك راسنيير في كتابه بهذا العنوان؟