21 نوفمبر 2024
ليس بديلاً للاتحاد المغاربي... إطار استراتيجي فعّال للتبادل
كُتب كثيرٌ عن اجتماع تونس، بين الجزائر وتونس وليبيا. وبعيداً عن التّجاذب المُفرّغ من المصداقية والجدل غير الجاد أو السياساوي، أودُّ الإدلاء، هنا، بدلوي من دون ادّعاء أنّني أمثّل أحداً أو جهة مُحدّدة، ومن دون الانتصار لأحدٍ على آخر، لأنّ الخاسر الأوّل والأخير، لو أنّ الاجتماع كان حلفاً بديلاً عن الاتحاد المغاربي، هو المنطقة برمّتها. في النّتيجة، ستنطلق المقالة من واقع اتحاد مغاربي ميّت سريرياً، ثمّ الانتقال إلى جملة التحدّيات التّي تواجهها المنطقة، وصولاً إلى إقرار الحاجة المُلحّة إلى إطار للتّبادل، يُعوّض الفراغ الذّي يكون وبالاً على المنطقة.
من السّذاجة الظن أنّ ثمّة، الآن، مؤسّسة اسمها اتّحاد المغرب العربي يمكن أن يكون موجوداً، ولو شكلياً، إذ توقّف الاتحاد في مساره التّكاملي عن أيّ نشاط، فهو لم يحلّ الإشكالات التّي كان يمكن لها أن تجعل منه بناءً توازنياً، مع ضفّة شمالية متوسّطية لم تصدّر إلينا إلّا مبادرات مستقطبة واتّفاقيات شراكة موجّهة إلى خدمة مصالح تجمُّع اقتصادي أوروبي كبير جدّاً، وحتّى تكون الصُّورة قاتمة أكثر، فإنّ طرفاً مهمّاً في الاتحاد المغاربي، هو ليبيا، دخل متاهة أزمة أمنية وسياسية بعد رحيل نظام معمّر القذّافي، وتحوَّلت الثورة إلى تحارب داخلي مستمرّ، بفواعل إقليمية ودولية زادت من وتيرة الخلاف السياسي. لم تكتف المنطقة بهذا الكمّ كلّه من أسباب التّوتُّر، لتشتعل منطقة السّاحل بانقلابات عسكرية، وبتفاعلات إقليمية ودولية أضحت تُشكّل تهديداً وجودياً، خاصّة أنّ من أبعادها ذلك التّناقض بين الموارد الشّحيحة والقوّة السّكّانية (نتحدّث، هنا، عن نصف مليار ساحلي، في حدود 2050)، من ناحية، وأنّ المنطقة مورّد حيويّ، في المستوى الطاقوي والمعدني للاقتصاد الغربي الرّأسمالي، من ناحية أخرى، إضافة، من ناحية ثالثة، إلى ذلك التفاعل الشّديد من قوى دولية (روسيا) وإقليمية (تركيا)، تريد تغيير قواعد اللعبة على حساب سياقات الأمن الحقيقية في شمال أفريقيا والمنطقة الساحلية - الصحراوية، برمّتها. تشكّل تلك التفاعلات كلّها تحدّيات أمام المنطقة، إن لم يُنظر إليها من منظور أمني/ دفاعي مشترك على المدى القصير. وبما أنّ الطّبيعة تخشى الفراغ، من المستحيل، مع الموت السّريري للاتّحاد المغربي، أن تبقى المنطقة من دون مبادراتٍ تملأ فراغ الانسحاب الفرنسي، والقدوم غير المُرحّب به، حقيقة، لفاعلين يبرزون مصالح غير متّسقة مع فاعلي المنطقة الكبار؛ الجزائر والمغرب، بصفة أولى، ليكون الأمر مُؤدّياً، طبيعياً، إلى محاولات تحرّك لبناء أُطُر عمل من فاعلي المنطقة الآخرين، وهم يشكّلون جزءاً من البناء التّكاملي المغاربي، بقصد التّعرُّض لتلك التّحدّيات، مع الاعتراف بأنّ ثقل التوتّر يبدأ من الجنوب الشّرقي للجزائر، أي ليبيا، و ينتهي إلى السّاحل، ما يعني أنّ الأطراف الثّلاثة، الجزائر وتونس وليبيا، تكون، هنا، أطرافاً معنيّة ومهتمّة، ويجب عليها أن تتحرّك في حال جمود الإطار التكاملي المغاربي الحالي، الذّي كان يمكن له، لو كان في سياق التفاعل الطبيعي، أن يكون هو الإطار الفاعل لرفع التحدّيات ومواجهة التهديدات.
الإطار الذّي بُدئ العمل من خلاله، بين البلدان الثّلاثة، لا يشكّل بديلاً للاتّحاد المغاربي، الذّي يبقى الإطار الحُلُم إذا صحّ التّعبير
لنحاول، هنا، التركيز على إحدى إشكالات الاجتماع، وهي المُتّصلة بالمياه الجوفية المشتركة بين البلدان الثّلاثة، إذ تفيد كلّ المعطيات بأنّ الخطر المستقبلي، في العالم وليس في المنطقة فقط، هو الأمن المائي، لأنّ المنطقة تعاني شُحّ الأمطار، ويجب عليها أن تُسيّر، في مقاربة علمية ومثالية، المياه الجوفية (يقع ثلثا تلك المياه في الجزائر والبقيّة بين تُونس وليبيا)، ولهذا، كان من بين النّقاط العملية الأولى لاجتماع تونس تفعيل أُطُر التسيير المُشترك لتلك المياه وهو إطار، بهذه الصّفة، لا يشكّل خطراً على البناء التكاملي المغاربي، بل إطارَ عملٍ مُصغّراً لإشكالية تهمُّ الأطراف الثلاثة، بصفة أولوية.
من ناحية، ثانية، هنا، أمنياً ودفاعياً، حتّى مع تحبيذ أن يكون هناك تعاملٌ مغاربيٌّ مع إشكالات ذات طبيعة أمنية و دفاعية، فإنّ التّفاعلات الخطيرة تأتي من احتمال عودة الصّراعات المسلّحة إلى ليبيا وانتشارها، كما كانت من قبل، إلى الساحل، وذلك مسارها وسياقها، منذ انقلاب مالي في 2012، وإذا أُضيف إلى التّفاعلات الصّراعية توقيع الدُّول الأوروبية ميثاق الهجرة، الذّي يجعل من دول الضفّة الجنوبية مناولاً، لمصلحة الاتحاد الأوربي، في إشكالية الهجرة، مع ما لتلك المناولة من أخطار التّعامل مع جحافل المهاجرين وتهديد توطينهم (في سواحل الضّفّة الجنوبية للمتوسّط) أو منعهم بالقوّة من محاولة الهجرة نحو الشّمال، إلى إيطاليا بصفة خاصّة، عبر تونس وليبيا، فإنّ ذلك كلّه يشكّل عاملاً قوياً ومحفزاً، استراتيجياً، لتشكيل إطار تفاهم، ولتبادل الفِكَر والإدراكات بين تونس والجزائر وليبيا، ولا يعني أبداً، أنّه تقويض لاتّحاد مغاربي لا يعمل، منذ فترة، ويجب أن تتعرّض الدُّول المعنية بتلك الإشكاليات إلى تلك التحديات، وترسم سياقاً لمواجهتها، بصفة استعجالية وعلى المدى القصير.
تحتّم ناحية ثالثة ذلك الإطار المُكمّل للاتّحاد المغاربي، وتشير إلى جملة التّغيُّرات التّي تحدث في منطقة السّاحل وتداعياتها المباشرة على شمال أفريقيا، فهناك انقلابات، وإعادة تشكيل تحالفات، وانسحاب فاعل تاريخي من المنطقة، هو فرنسا، إضافة إلى عداء جديد بدأت ملامحُه في البروز هو استعداء فاعلي شمال القارّة، بدءاً بالجزائر، وادّعاء أنّ الأزمات مكمنها في تفاعل دولة كبيرة، مثل الجزائر، مع إشكاليات السّاحل، وهي كلُّها عوامل تستدعي التّفكير في البدء برفع تلك التّحدّيات، والتّعامل معها على أنّها تهديدات حقيقية، وليست مُحتملة، تستوجب، بالنتيجة، البدء في التّحرُّك حتّى لو استدعى الأمر التّحرُّك الجزئي، بسبب العلاقات المقطوعة بين الجزائر والمغرب، والحاجة المُلحّة إلى إطار مكمّل للاتحاد المغاربي، يملأ ذلك الفراغ في التّفاعل مع إشكاليات ذات طبيعة وجودية، حقّاً.
لعلّ الإطار الثُّلاثي يكون هو القاطرة التّي ستقود إلى إعادة الحياة للإدراك المشترك بأنّ ثمّة تحدّيات وجودية تستدعي المواجهة التّكاملية