ماذا لو أحببتُ تمساحاً؟
لا فرق بين التّمساح والعفريت، حين يقعان بين فكّي الحب الواسع وسواطير الحروب الصّغيرة للحياة. بغض النظر عن العفريت، ماذا يفعل التّمساح حين يقع في الحبّ؟ يتساءل سعيد منتسب، مع أنه يدرك أنّ لا خيارات كثيرةً أمام الواقع في الحبّ، إنسان أو تمساح أو عفريت، غير الاستسلام. الحبّ حاكمٌ مستبد، لا مشورة ولا رأي لغير القلب عنده. وإذا كانت العفاريت العاشقة تتلبّس الإنسان الذي تعشقه، حسب المعتقدات الشّعبية، فالإنسانُ يتلبّس التّمساح في رأي منتسب.
للتمساح وجوه كثيرة في المغرب، لذا يمكن فهمه هنا أنه إنسانٌ له خصال التمساح، وهي الزّحف والغدر والافتراس. أو العودة إلى المصطلح السياسي الشهير عن "التماسيح والعفاريت"، الذي راج في العقد الماضي لوصف الفساد، حسب رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران. لا فرق جذرياً، غير أن تماسيحنا هنا ليست بالغة السّوء، أو منتفخة بطونها بمال المساكين، بل يمكن أن تكون أيّاً منّا، حسب سعيد منتسب، في كتابه الجديد "تماسيح مصمّمة لقول شيءٍ ما"، الذي جاء على شكل مشابك قصصية، غير مصمّمة لنشر الغسيل الإنساني، بل لتقديده في سطوح عالية.
يعطينا الكاتب أيضاً وصفةً لقتل التمساح، سواء أكان عاشقاً، أم مجرّد متسكّع في الدنيا على غير هوى: "لا يَخمدُ التمساح وينتهي أمرُه إلا إذا قُطع ذيله، وأُحرق ووضع في حُقٍّ (مرطبان) مختوم بالشمع الأحمر، فإذا تُرك لحاله، تجمّعت الروح في الذيل وخرج منها سائلٌ أصفر إذا خثر تشكل منه أنبوب غضروفي ينمو إلى أن يصير تمساحا مكتمل العضلات بارز الفكوك". إذن، لا تموت التماسيح، عاشقةً كانت أو مفترسة للمال والمآل.
لكن، ماذا يحدُث في العكس: عندما يحاول التّمساح قتل الإنسان؟ مع العلم أن المفترسة تمساحة أنثى، تلتهم رجلاً عاشقاً مسكيناً؟ "رأيتُ زوّار الحديقة يأتون أفواجاً. يُحدثون ضجّة كبيرة، يتدافعون على السياج وأنا أنزف على طرف الحوض المائي، لا أقوى على الصراخ، كأنني بلا فم. كان من المفترض أن تأكلني بالكامل، لكنها رفضت الإمعان في أدائها الافتراسي. اكتفت بابتلاع ساقٍ واحدةٍ قبل أن تنزل إلى الماء". هكذا يصمّم الإنسان المسكين على الموت، في سبيل الحب، على عكس التمساح الذي يحيا حتى لو قُتل قتلاً يسعى إلى الإفناء.
تتشابه التماسيح حتى لو اختلفت: "ما جعلني متأكّداً من أنه التمساح نفسه هو البقعة الكستنائية فوق كتفه، والجرحُ البارز على الحاجب الأيسر من وجهه. لا يمكن أن أخطئ. الفرق الوحيد بينهما إذا استثنينا الحجم هو المكان. ذلك التمساح كان يعيش في محميّة بشمال أستراليا. أما هذا، فيعيش في جيبي الذي لا يتوفّر على أي منفذ للإخلاء الإلزامي... هذا التمساح هو صاحبُ الغارات الجيبية التي تعوّدتُ عليها وواجهتها بالصمت".
الآن، عرفنا أن فصيلة هذا التمساح متسلّق، متنقّل بقدرةٍ ساحرة بين الجيوب والشوارع بلا رادع: "ظلّ يزحف طويلا بين الأرصفة. تعبُره أضواء الإنذار التي تطلقها سياراتُ الأجهزة الأمنية التي مدَّت رأسها إلى مسرح الجريمة وأعادته حسيرا. ابتسم، واستلَّ نفسَه من الاهتمام بما يجري هناك". لكنه مجرّد تمساح واحد بين عشرات غيره.
وفي حالة ما إذا سكن التمساح جسد الإنسان، فهو يفعل ذلك بكل تهيّؤاته التي تهلكه إنساناً وتمساحاً: "يُخيّل إليه أنني في مكان آخرـ ربما يشعر برغبتي في عدم البقاء. أعرف أنني أعيش داخله بصور لا أعرفها، وهذا شيءٌ لا يمكن علاجه. أحياناً يدّعي أنه دفنني في جزيرةٍ تسمّى سوغو تحكُمها امرأة زنجية". فـ"ما الذي يريده تمساحٌ ظمآن من بركة مياه لا توجد إلا في رأسه؟ البركة، عكس الحقيقة الفيزيائية، ليست شيئاً بعينه، وإنما كائناً في حالة مستمرّة من المواربة. دائماً تدفع المستحمُّ فيها نحو شيءٍ مجهول".
حسناً إذن، ماذا يفعل التمساح عندما يقع في الحبّ يا سعيد؟ "سيفعل ما تمليه عليه طبيعته. سيفتح فمه على اتساعه". ولعلّه حينها يبتلع تمساحته التي منحها الروائي والقاص سعيد منتسب مساحة وافرة في تُحفته القصصية، الصادرة حديثاً عن دار خطوط وظلال (عمّان)، الجديرة بالقراءة والهضم الكامل، سواء كنّا بشراً أو تماسيح، أو خليطا منهما.