ماذا لو سقطت الجدران
في البدء، كان الصّمت، وكانت الصورة لغة التخاطب الوحيدة. ثم جاء الهمس ثم جاء الغناء ثم عاش الإنسان في ظلّ هذه الأشياء. في البدء، كان الفقر ثم كلّ ابتلاءات الحياة للإنسان، ثم كان الصّبر، وكان الكبرياء، وكانت النّجاة آخر ما ينتهي به السُّلم. جيلاً بعد جيل، تتقدّم الأشياء في "أبي الجعد"، ببطءِ السّلحفاة وصبرها اللامتناهي. إيقاع الحياة في مدينة أبي الجعد يشبه ما قد ترويه رواية لعبد الرحمن منيف، ولعل بول أوستر سيتخيّله وهو يخترع العزلة، أو يبحث عن سر في شوارع نيويورك.
لا ليست رواية، بل فيلم، أو بالأحرى هي أفلام للمخرج حكيم بلعباس. جديدها أخيرا الفيلم الذي أُطلق منذ أيّام للجمهور المغربي، بعنوان "لو كان يطيحوا الحيوط". عندما تشاهد الفيلم حاملاً العنوان مثل شمعة تستدّل بها على الرموز الكثيرة، في الفيلم، سترى الأشياء بشكلٍ يختلف عن الآخرين. أنا رأيت الجدران تسقط، وقرأتُ العنوان "لو تسقط الجدران"، بدلالةٍ سياسيةٍ تحيل إلى الحرية من منطقة بعيدة جداً، لا يلوح الأمل في أفقها، وهو تحرّر من الفقر ومن الظلم الذي يعيشه الفقير أيضا. لكن حكيم بلعباس حكى لي أنّه يقصد بالجملة "لو انهارت الجدران"، بمعنى الكشف عما تخفيه الجدران من أسرار الناس، من فرح وحزنٍ ومأساةٍ ومشاعر شديدة التناقض، لا نراها خارج البيوت. كما يقول المثل "البيوت أسرار". وهي العبارة التي علق بها عامل السينما الوحيدة في مدينته، بينما يتجوّلان آخر الليل، متخيّلاً ما قد نراه، إذا انهارت جدران البيوت وانكشفت أسرارها.
على مدى 18 قصة، نراقب كاميرا حكيم بلعباس. وسط لوحة البؤس هذا، هناك لقطات تبدو كأنها فلتات من زمن آخر. الصّباغ الذي يقرأ شكسبير وهو يرشّ الجير على الجدران، وبائع عصافير الزينة، لكن من يشتري عصافير الزينة في أبي الجعد؟ والأغاني الشرقية التي تقف بدهشة في مكانٍ يحتفي بمنطق حتمية الأشياء، بموسيقى العيطة ومواويلها الشجيّة التي تتردّد البحّة في أصوات شيخاتها كتحية للجفاف، الذي يعيش فيه سكان مناطق انبثق فيها غناء العيطة، كما تنبثق زهرة برّية وسط شقوق الإسمنت، نادرة لكن ليست غريبة، فكل ما هو برّي له طريقته في الحياة، والولادة في أكثر الأماكن جفافاً. بينما يلاحق المشاهد خيوط الوجوه والقصص، تصدح أم كلثوم "يا حبيبي كل شيءٍ بقضاء/ ما بأيدينا خلقنا تعساء".
يمثل الماء متغيّراً منعشاً على جفاف الحياة في أبي الجعد، فحكيم يستعمل الماء كثيراً في منطقة معروفة بالجفاف، حيث لا تملك الأسر إمدادات الماء والكهرباء، بل يُحمَل الماء من الخارج إلى البيت، فيكون استعماله اقتصاديّا جدّا بالنظر إلى قلّته. لكن يبدو في الفيلم كرشّة أملٍ على طبخة الفقر والجفاف.
لعلّ أكثر ما يلفت المشاهد، إلى جانب سحر الصّورة، والكادرات الإنسانية الفريدة التي يشكّل فيها الإنسان العنصر الأساسي، وكل شيء آخر بما فيه المكان والزّمان، عناصر ثانوية. يقدم الصّمت نفسه بطلا لفيلم "لو كانو يطيحوا الحيوط"، وعندما يتكلم الشّخوص فكثيراً ما تخرج الكلمات خجولةً متردّدة وهامسة. الهمس دليل آخر على تقبلّ أهل أبي الجعد مصيرهم. لا غضب، لا صراخ، لا عنف، لا تذمّر، فقط فقر شديد ومسالم وهادئ. فليس للفقراء طموح في شيء أبعد من قوت يومهم، وفي ذلك يجب أن يظلّ المرء محافظاً على كرامته وكبريائه. لولا أن حكيم لا يمثل أي إيديولوجيا لقلت إنّه يقدم البروليتاريا في جذورها القصوى، وتشبّث الاشتراكية بحياة المعدمين، وأيضا تنظيمها الفقر ليكون على قدرٍ سواء بين الناس.
في أفلام حكيم، النّساء قويات مثل الرجال. بل أقوى، فكثير منهن يعشن بلا رجال، فهم غالباً قد التهمتهم الهجرة، فتربّي الزوجة الأولاد بيد فارغة، لكن دافئة. وتقف بجدارة النّخلات الأمهات والجدّات وحارسات الأولياء والقابلات، والخبيرات في الأعشاب، ومعدّات الرّغايف والمسمن في المقاهي الشعبية.. شخصيات هامشية جدّا في البلاد، لكنها جوهر الحياة في أبي الجعد، وكبرياؤهن لا يقل عن كبرياء شيوخ المنطقة، الذين ينتظرون اللّاشيء بصبر، حاملين ذكريات أشدّ قحطاً، وينتظرون عودة الأبناء بحظ مختلف.