ما يستطيعه الفنّ وما لا يستطيع
كثيرا ما نطرحُه هذا السؤال على أنفسنا كبشر، في أوقات المحن والصعاب وانسداد الأفق وفقدان الأمل أو الشعور بالعجز المطلق حيال انتصار الشرّ على الخير: ما الذي يستطيعُه الفنّ أمام الكارثة، أو ما نفع الفنّ حين يموت البشر ويتساقطون بالآلاف مثل حشراتٍ أو جزيئاتٍ لا قيمة لها؟ سؤال أزليّ، طالما العالم هو العالم، والأقوياء والمستبدّون هم الذين يحكمونه ويوجهون دفّته، وطالما المغلوبون على أمرهم ضحايا مهمّشة أو أرقام زائدة يُستحسن التخلّص منها، بأي ثمنٍ وكيفما اتفق. أفكّر في القرن العشرين الذي مضى كي لا أذهب بعيدا، حربان عالميّتان أودتا بحياة عشرات الملايين من البشر، ثم بلاد بأكملها استُلبت وقتل أهلها واقتلعوا من بيوتهم وأراضيهم في طرفة عين، ثم حروب استعمارية لا تنتهي، وحروبٍ جانبية، أهلية وغير أهلية، وانهيار أنظمة، ومذابح وإبادات ومقتلات، وقتلٌ قتل قتل... أما السؤال فباقٍ هو نفسُه، منذ حاول الإنسان التعبير بما أتيح له من أدواتٍ، صدمةً واعتراضا ويأسا وعجزا عن الفهم. فماذا بوسع الذين هم ضحايا بالطبع، ويرفضون موقع الضحية؟ ماذا بوسع الكاتب والفنّان سوى التعبير جهارا، أو حتى سرّا، حين يُمنع من القول؟
هكذا بلغتنا كل الأعمال الفنية، منذ خطّت يدُ إنسان بالفحم أول رسمٍ داخل كهف، وهكذا بقيت اللوحة بعد أن امّحى مشهد الدمار، واستمرّت الأغنية والموسيقى تصدحان بعد غياب ضجيج القصف، وعاشت القصيدة لتروي قصص وآلام من طحنتهم وحشيةُ الحروب وطوتهم أعوامُ القهر والظلم. نعم، الإنسان ينسى، لكن الفنّ والأدب هنا، ليذكّرانه، لينبّهانه، لا إلى ما جرى فحسب، فتلك مهمّة التاريخ والتاريخ كما يُردَّد غالبا، يكتبُه الأقوياء أو يتحوّل هو نفسُه إلى موضوع نزاع، وإنما ليعيدا إحياء ما عاناه، لتوصيف ردّ الفعل لا الفعل، وقع الحدَث وعواقبه لا الحدَث نفسه. وبما أننا، في هذا الجزء الملعون من العالم، ننام على أخبار حروبٍ ومجازر لنستفيق على أخرى، قد يكون مشروعا أن نسأل: هل تمكّنت الفنون والآداب على أنواعها من التعبير عن معاناة الإنسان العربي في القرن العشرين وفي الربع الأول من القرن الذي تلاه؟
أتفكّر في هذا كلّه، والعينُ على ما يجري في غزة الآن، والعينُ على ما جرى في فلسطين، منذ العام 1948. هل تمكّن الفن الفلسطيني، والفن العربي عامة، من إنتاج ما يوازي تراجيدية الحدث ومواكبته؟ سؤالٌ صعبٌ ولست أدّعي امتلاك إجابة عنه، لكني على يقينٍ من أن الهولوكوست الذي بتنا نعرف أدقّ تفاصيله، برغم أن الأغلبية لم تشهده أو تقترب منه كحدث، تكفّل الأدبُ والسينما والموسيقى وفنونٌ متنوعة أخرى بنقل عظمة روْعه إلينا، بحيث بتنا، بشكلٍ أو أو بآخر، نحن أيضا، لا بل البشرية جمعاء، شاهدين عليه. وقد يقولُ قائل إن الفلسطينيين لا يملكون الإمكانات نفسها، وهذا رأيٌ يستدعي الاعتراض أو على الأقل يحتمل النقاش، إذ ما كانت إمكانات السينما الإيرانية مثلا بعد الثورة الإسلامية وقوانين المنع والحجب وقرار الخميني؟ لقد أنتج المخرجون الإيرانيون تحت تهديد مقصّ الرقابة، لا بل تحت تهديد أحكام بالسجن والإعدام، أفلاما اعترف العالم بجماليّتها وشاعريّتها، وخاطبت الإنسان في كل أنحاء العالم، بمقدرتها على تقديم أبسط تفاصيل الحياة، وإبداعها في إيجاد موضوعاتٍ جديدة، واعتمادها ميزانيّاتٍ متقشّفة وممثلين غير محترفين، إلخ، فحضرت في المهرجانات العالمية، وحصدت أهم الجوائز، وأوجدت صوتا خاصا بات يُعرَف عالميا بالسينما الإيرانية. قد يكون هذا الكلام مُجحفا في حقّ سينمائيين فلسطينيين أبدعوا في إنتاج أفلام تركت بصمتها المميزة، لكنها للأسف لم تؤد إلى إيجاد بصمةٍ عامّة تسمّى السينما الفلسطينية. وقد ذكرت السينما كمثال لأنها ربما أكثر الفنون وقْعا وتأثيرا، لقدرتها على الوصول إلى أكبر عدد من الناس. وللحديث صلة...